لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
جلستُ على ضفة نهر صغير (اللان الألماني)، كأن الزمان قد قرر أن يتمهّل قليلاً، وأن يمنحني فسحةً من التأمل قبل أن يُنزل الستار على يومه. الشمس تتهيّأ للغروب، تتثاءب بلون ذهبيّ خافت، وكأنها تلمّح لي أن الجمال لا يُقال.. بل يُرى.
أمام عيني، كان الماء يسري بلا عناء، كمن تعلّم الحكمة من طول السفر، وخضرة الأشجار تلوّح لي بأغصانها، كأنها تقول: "كل شيء يزدهر بصمت". فيما العصافير ترسل نغماتها في الهواء، دون أن تنتظر تصفيقًا.
لكن ما أسرّ قلبي حقًا كان زوجًا من البط يسبحان بمحاذاة بعضهما، في تناغم لا تصنعه القوانين، بل تصنعه المحبة.. أو الغريزة.. أو لعله اتفاق غير مكتوب أبرمته الكائنات منذ الأزل: أن لا تزاحم من يسير معك بنفس الهدوء.
تأملت البطتين، فرأيتهما يشقان الماء بصدر مرفوع، وعنق مائل، وفمٍ يوحي بالسخرية الخفيفة من تعقيدات البشر. وهنا، لمعت الفكرة في رأسي كما يلمع ريش البجعة تحت الشمس: ربما كان الإنسان الأول جالسًا هكذا، يراقب هذا المشهد، ثم خطرت له فكرة القارب! لا المعادلات الفيزيائية، ولا المساطر، بل البط!
أليست القوارب الأولى قد رُسمت مقدمتها بعنق طويل يشبه عنق البط أو البجع؟ أليست المجاديف مجرد امتداد لأقدامهما وهي تدفع الماء؟ أليس أول بحّار في التاريخ مجرد طائر يعرف كيف يعبر النهر دون أن يغرق؟ لقد سرقنا فكرتهم بهدوء.. وادّعينا أننا نحن من اكتشف البحر.
بل أزعم – بغير كثير حياء – أن جزءًا من الرقص الشرقي ما هو إلا تقليد بشري لحركة ذيل البط! ذاك الاهتزاز الموجي الساحر، المتمايل برقة وشيءٍ من الغنج الطبيعي. لا تسخر.. راقب جيدًا، وستفهم ما أعني.
الحيوانات ليست فقط معلمتنا في البناء والطيران، بل في الرقص، وفي الحب، وحتى في الصبر.
الطبيعة كلها عرضٌ حيّ، بلا جمهور.. وبلا تصفيق.
ولكن من يُحسن المشاهدة، يخرج بفكرة تغير العالم.. أو على الأقل، تنقذ يومه من الضجر.