لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
منذ فجر التفكير البشري، سعى الإنسان لفهم ما يربط كل شيء في هذا الكون: ما الذي يجعل الذرات تتماسك؟ ما الذي يدفع الكواكب للدوران؟ ما الذي يمنح الحياة دفئها، والنجوم توهجها، والعقول إدراكها؟
الإجابة المختصرة: الطاقة.
في قلب كل تحول كوني، من الانفجار العظيم إلى ومضة فكرة، توجد الطاقة. ومع تطور الفيزياء، خاصة مع قوانين الديناميكا الحرارية والنسبية، أدركنا أن الطاقة لا تفنى ولا تُستحدث من العدم، وإنما تتحول من صورة إلى أخرى.
هذا القانون البسيط في ظاهره يحمل في طياته أعمق الأسرار، ليس فقط في العلم، بل في الفلسفة واللاهوت أيضًا.
فيزيائيًا، تُعرّف الطاقة بأنها القابلية لإحداث شغل أو تغيير. لكن هذا التعريف يفشل في احتواء المعنى الأعمق للطاقة حين نغوص في أصولها ومآلاتها.
فالطاقة ليست فقط محركًا للعالم الفيزيائي، بل هي أيضًا لغة الكون الخفية، ذلك الخيط الناظم الذي يربط المادة بالزمن، والمكان بالحركة، والحياة بالعدم.
وفي الفلسفة، يمكن اعتبار الطاقة كـ"الجوهر الكامن" خلف كل مظاهر الوجود. فإذا كانت المادة هي "الهيئة"، فالطاقة هي "الكينونة". إن كل إدراك، كل عاطفة، كل فعل، كل تغير، لا يمكن فهمه دون استحضار مفهوم الطاقة.
نظرية الانفجار العظيم، التي تعد أكثر النماذج قبولًا لشرح نشأة الكون، تفترض أن الكون بدأ من حالة طاقة مركّزة للغاية، ثم بدأت هذه الطاقة تتوسع وتتحول إلى مادة، زمكان، ضوء، حرارة، قوى، حياة.
"المادة ما هي إلا طاقة متكثفة"، هكذا قال أينشتاين في معادلته الشهيرة:
E = mc²
أي أن الكتلة (المادة) والطاقة وجهان لعملة واحدة.
وبهذا الفهم، يصبح الكون في جوهره تجليًا مستمرًا للطاقة. وما المجرات والنجوم والبشر إلا تموجات مختلفة في بحر طاقي شاسع. وحتى الفراغ الكوني ليس فراغًا حقيقيًا، بل مليء بكمونات طاقية قد تنبثق منها جسيمات وفق ميكانيكا الكم.
في كثير من المدارس الفلسفية، يُنظر إلى الطاقة بوصفها السبب الأولي أو القدرة الخالقة التي تقف خلف كل حدث. وهذا يتقاطع جذريًا مع الرؤية الإيمانية في الإسلام، حيث الله سبحانه وتعالى هو مصدر كل شيء، بما في ذلك الطاقة.
يقول تعالى:
"الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل" [الزمر: 62]
"وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ" [الأنبياء: 30]
(والماء نفسه، كما نعلم، هو طاقة في تركيب ذري معقد).
في هذا السياق، يمكن فهم أن الله هو "رب الطاقة"، أي المصدر الأصلي للطاقة التي خُلقت منها المادة، والتي تسري في كل شيء. وهذا يعيدنا إلى وحدة الوجود، ليس بمعناها الفلسفي المجرد، بل بوصفها وحدة طاقية تشهد على وحدانية الخالق.
ليس الفكر إلا تموجات كهربائية في الدماغ، أي صورة من صور الطاقة.
وليس الشعور إلا نبضات كيميائية كهربائية.
وحتى المشاعر العميقة، من حب وخوف وأمل، يمكن رصد آثارها طاقيًا في الجسد.
إذن، الوعي الإنساني نفسه مظهر طاقي، يُثير تساؤلات حول العلاقة بين الطاقة والمُطلق، بين الفيزياء والميتافيزيقا.
هل الوعي ناتج عن ترتيبات طاقية معقدة؟ أم أن الطاقة ذاتها واعية في جوهرها؟
العلم يدرس قوانين الطاقة، مساراتها، وصورها.
الإيمان يبحث في مصدرها، غاياتها، ومآلها.
والجمع بينهما لا يلغي أحدهما، بل يوسّع أفق الفهم:
فحين نرى الطاقة تحكم كل شيء، نُدرك أن هناك نظامًا محكمًا.
وحين نرى أن النظام نفسه غير مُنتج ذاتيًا، نبحث عن ناظم.
وهذا الناظم، في الرؤية الإيمانية، هو الله، الذي قال:
"وكل شيء عنده بمقدار" [الرعد: 8].
الزمن: لغة تحولات الطاقة وأداة الوعي البشري بها
عندما نقول إن "الطاقة تتحول من صورة إلى أخرى"، فإننا في الحقيقة نعبر عن حركة، وكل حركة لا يمكن أن تُدرك إلا بوجود الزمن. فالزمن ليس مجرد خلفية جامدة تجري فيها الأحداث، بل هو في جوهره مقياس لتحولات الطاقة.
يمكننا النظر إلى الزمن بوصفه "النسيج الذي تُحاك عليه تغيرات الطاقة". لا نرى الطاقة مباشرة، لكننا نراها حين تتغير، وحين تنتقل، وحين تؤثر، وكل هذه الأفعال تحتاج إلى بُعد زمني لتُدرك.
ولعل وعي الإنسان بالزمن هو الذي مكّنه من إدراك الطاقة وتحولاتها. ففي الزمن، يشعر الإنسان بالحرارة حين تتغير، ويدرك الضوء حين يتحول من ليل إلى نهار، ويلاحظ المرض حين ينقص طاقته الحيوية، ويكتشف الفكرة حين تبرق في دماغه.
إن الزمن هنا ليس مجرد تتابع لثوانٍ وساعات، بل هو أداة إدراكية كونية، بها يستطيع العقل البشري أن يعقل معنى التغير، والتحول، والانبثاق، والزوال—all of which are energetic in essence.
وقد أشار أينشتاين نفسه إلى أن الزمان والمكان ليسا كيانين منفصلين عن المادة والطاقة، بل هما مرتبطان بها عضوياً، من خلال نسيج "الزمكان" الذي ينحني بتأثير الطاقة والكتلة.
وبهذا المعنى، فإن الزمن ليس شيئًا محايدًا، بل هو فاعل ومتأثر، يُعيد تشكيل وعينا بالكون وبأنفسنا.
بل يمكن القول إن الزمن هو المرآة التي نرى فيها الطاقة تتبدى وتختفي. وبدون هذه المرآة، لن ندرك الفرق بين الجماد والحياة، بين النار والرماد، بين المبتدأ والمنتهى.
كل ما نعرفه، وكل ما نجهله، محكوم بالطاقة.
نحن نعيش داخل شبكة طاقية لا متناهية، نحملها في أجسادنا، ونعبّر عنها بعقولنا، ونسافر بها عبر الزمن.
وفهم الطاقة ليس مجرد مفتاح للعلوم الحديثة، بل هو أيضًا مدخل لفهم أنفسنا، ولمعنى الحياة، وللحكمة التي تقف خلف هذا الكون العجيب.
وحين نربط العلم بالإيمان، ندرك أن الطاقة ليست فقط قوة فيزيائية، بل آية من آيات الخالق.