لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
في بدايات الوعي، كثيرًا ما يخيّل للمرء أنه الأفضل.. الأذكى، الأطهر، الأسمى خُلقًا، والأكثر تمسكًا بدينه، وأن بلاده هي المعيار، وأن ما سواها باهت اللون ضائع الهوية. ينظر إلى ما حوله بعين المنتصر، ويقيس العالم بمسطرة صنعها داخل حدود تصوّره الضيّق.
تغمره الثقة في أن طريقتنا في الحياة هي الأكمل، ومنتجاتنا هي الأجود، وتاريخنا هو الأنقى، ونَسَبنا هو الأشرف. هكذا تُربّى بعض العقول، في أوطانٍ لم تسأل نفسها طويلًا عن موقعها من العالم، بل رددت لنفسها أنها مركزه.
لكن مع اتساع المدارك، ومع السفر والتماسّ والتجربة، تبدأ القشور في التساقط. تكتشف تدريجيًا أنك لست محور الكون، وأنك – مثل غيرك – مزيجٌ من النقص والكمال، من الجمال والعيب. ترى أن شعوبًا أخرى قد سبقتك لا لأنها أفضل جوهرًا، بل لأنها سعت باكرًا، وبحثت عن مواطن قوّتها، وبَنَت قبل أن تبني، وطرقت أبواب الأسئلة التي ما زلت تهابها.
هنا تتعلم أن الوعي لا يقاس بالعمر ولا بالتصفيق ولا بالجمود، بل بعمق التجربة، وسعة الاطلاع، وجرأة الأسئلة. بالاحتكاك بالمختلف، بصدام الأفكار لا بتجنّبها، برؤية ما هو خارج نطاق المألوف، برفض مسايرة رأي الأغلبية حين يكون دافعه الخوف لا الحكمة. فكم من شابٍّ يسبق الكهول وعيًا، وكم من ظل سجين قوقعته، رغم آلاف الكتب من لون واحد.
وحين تتأمل أكثر، ترى أن النفخ الزائف في الذات، والأنانية التي تظن نفسها فضيلة، والحسد والضغينة التي تختبئ تحت شعارات الكبرياء.. ليست حكرًا على قوم دون قوم، بل هي جزء من تركيبة بشرية عامة ويكاد لا ينجو منها أحد. وما يُفزع في الأمر أن كثيرين يصرّون على اعتلاء القمة، دون أن يروا سواهم، أو يعترفوا أن هنالك قممًا أخرى لا تقل ارتفاعًا، وربما تفوقهم علوًا.
فما هو معيار الأفضلية إذن؟ أهو صوت الداخل فقط؟ أم أننا نحتاج أن نُصغي للعالم كي نفهم أنفسنا؟
ربما.. وربما أيضًا يكون الجواب في التواضع. فالعقل الذي لا يرى إلا صورته، يظل غريبًا في مرآة العالم.