لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
قد يُظَنُّ الشكر مجرّد خُلُق اجتماعي أو واجب ديني، لكنّ نظرة أعمق إلى الحديث النبوي «من لم يشكر الناس لم يشكر الله» تفتح أفقًا أوسع: أفقًا يرى في الشكر نظامًا كونيًا، مبدأً وجوديًا، وقانونًا فيزيائيًا وروحيًا يُنظّم العلاقة بين الكائنات، ويضبط توازن الفيض بين الخلق والخالق.
في هذا المقال، نقترح قراءة جديدة للشكر، تُقارب بين التصوف الإسلامي والعلوم الحديثة، وتُظهر كيف أن الامتنان ليس فقط فعلًا أخلاقيًا، بل هو ضرورة وجودية في الشبكة التي تربط بين الإنسان والكون والإله.
الشكر، في أبسط تعريفاته، هو اعترافٌ بالفضل وردٌّ له. لكنّ هذا الفعل البسيط يحمل في طيّاته بنيةً أعقد بكثير. فهو:
على المستوى النفسي: يقوّي الإحساس بالاتصال والرضا.
على المستوى الاجتماعي: يفعّل دوائر التعاون والثقة.
على المستوى العصبي: ينشّط مراكز المكافأة والقرار في الدماغ.
وعلى المستوى الروحي: كما يرى الصوفية، هو جسرٌ بين العبد وربّه، وهو مفتاح لتجلّي النور الإلهي في القلب.
إذن، نحن أمام ظاهرة تتكامل فيها مستويات الوعي والإدراك، وتتقاطع فيها العلوم والعرفان.
في الدماغ البشري، لا توجد خلية عصبية (Neuron) تعيش منعزلة. كل خلية متصلة بأخرى عبر تشابكات عصبية (Synapses)، وتتبادل الإشارات الكهربائية والكيماوية.
الوظائف العقلية — من التذكّر إلى التعلّم إلى الانفعال — لا تقوم على فردية الخلايا، بل على الشبكة.
والأعجب من ذلك، أن:
كل فعل من أفعال الامتنان يشغّل مجموعة من العقد العصبية المرتبطة بالعاطفة والوعي الاجتماعي، بحسب دراسات في علم الأعصاب الاجتماعي (Social Neuroscience).
حين يُقال "شكرًا"، لا يُفعَّل اللسان فقط، بل يضيء الدماغ في مناطق مثل:
قشرة الفص الجبهي (Prefrontal Cortex): مرتبطة بالنية والتقييم الأخلاقي.
اللوزة الدماغية (Amygdala): مركز الشعور العاطفي.
النواة المتكئة (Nucleus Accumbens): مرتبطة بالإحساس بالمكافأة.
بمعنى آخر: الشكر يعيد تشكيل الشبكة العصبية ذاتها، ويضبط مسارات التفاعل بين الإنسان وبيئته. وإن تعطّل الشكر، تعطّل "نظام المكافأة"، وظهر الانفصال والانكماش على الذات.
وهذا تمامًا ما عبّر عنه الصوفية بلغتهم الرمزية.
في التصوف الإسلامي، لا يُنظر إلى الشكر بوصفه عادةً لغوية، بل مقامًا من مقامات السلوك إلى الله.
«الشكر هو صرف العبد ما أنعم الله به فيما أُريد منه، لا فيما أرادت النفس.»
الشكر إذن ليس لفظًا، بل هندسة دقيقة لاستخدام الفضل في وجهته الصحيحة. يشبه ذلك ما في الشبكات العصبية: حيث لا قيمة لإشارة واردة لا تُصرف في اتجاهها الفعّال.
«من لم يشكر النعمة فقد تعرّض لزوالها، ومن شكرها فقد قيّدها بعقالها.»
الشكر هنا هو آلية تثبيت النعمة، يشبه في منطق الفيزياء فكرة الاستقرار الديناميكي لأي نظام مفتوح.
«الشكر تجلٍّ من تجليات الوجود على العبد.. فمن لم يشكر، أغلق باب الفيض عنه.»
والفيض عند ابن عربي هو التيار المستمر من الحقّ إلى الخلق. فإن انقطع الشكر، انقطع التيار، كما ينقطع تدفّق الطاقة في شبكة كهربائية لم تكتمل دورتها.
إذا كان الشكر هو إعادة وصل ما فُصِل، فإن الجحود هو فعل القطع. ليس الجحود مجرّد كِبرٍ أو إنكار، بل هو — في تعبير الصوفية — حجاب، وفي لغة العلم خلل في النظام.
في الشبكات العصبية:
حين تتعطّل "نقطة" في الشبكة دون إرسال أو استقبال، تُضعف الوظيفة الكاملة للدماغ.
ومع تكرار هذه الأعطاب، يُصاب النظام بما يشبه الضمور أو الانفصال العصبي.
وفي التصوف:
من لا يشكر لا يتصل، ومن لا يتصل لا يترقّى، ومن لا يترقّى يعود إلى دائرة النفس والهوى.
«الشكر اتصال، والجحود انقطاع. ومن انقطع عن مجرى النور، عاد إلى ظلمة الطبع.»
كأن الجحود فصلٌ للتيار الكهربائي بين القلب والفيض الإلهي. ومن هنا نفهم بعمق الحديث النبوي:
«من لم يشكر الناس لم يشكر الله»
فمَن عَجزَ عن شكر الوسيط، كأنما أنكر المصدر، لأن كمال العطاء لا يظهر إلا إذا وصل أثره من المنعم إلى المستفيد، ثم عاد بالشكر من المستفيد إلى المنعم.
وهذا ما يشبه تمامًا دورة الطاقة المغلقة في الفيزياء:
إذا لم يُعَد تصريف الطاقة المستقبَلة، نشأ خلل، واختل التوازن.
وإن أُعيدت ضمن نظام تبادلي دقيق (input-output-feedback)، استقر النظام.
ولتقريب الصورة بين ما تُظهره العلوم الحديثة وما عبّر عنه العرفاء بلغة رمزية، يمكننا أن نلاحظ أن العقل البشري والروح الإنسانية يشتركان في البنية الشبكية ذاتها. فالخلية العصبية في الدماغ — وتُعرف بالنيرون — تؤدي دور وحدة الاتصال الأساسية، تقابلها في التصوف "القلب"، بوصفه مركز التلقي الروحي. وما يُعرف بالتشابك العصبي (Synapse)، الذي تمرّ عبره الإشارات بين الخلايا، يماثله مفهوم "الفيض والتجلّي" في التراث الصوفي، أي الانتقال النوراني من حضرة الحق إلى قلوب العارفين.
أما تعطل النيرون أو توقفه عن استقبال الإشارات أو إرسالها، فهو يقابل في التصوف فعل "الجحود"، حيث ينقطع الإنسان عن مجرى النعمة، ويغلق على نفسه باب الفيض. وفي كلا الحالتين، يتضرر النظام ككل. فكما أن الدماغ يتأثر عند توقف جزء من شبكته، فإن الروح تُصاب بالخمول أو الظلمة حين يغيب الشكر، وهو ما يجعل العلاقة بين الإنسان والوجود مختلّة.
ويزداد هذا التشابه وضوحًا عند التأمل في مفهوم "التغذية الراجعة" (Feedback loops) في الفيزياء والبيولوجيا، حيث لا يكتمل أي نظام إلا إذا استقبل الأثر ثم أرسله مرة أخرى لضبط التوازن. هذا ما يعبر عنه التصوف بوضوح: فالشكر ليس مجرّد رد جميل، بل هو شرط لبقاء الفضل واستمراره.
حتى فكرة "الترابط الكمومي" (Quantum Entanglement) — حيث يتأثر جسيمان مترابطان ببعضهما فورًا مهما بَعُد بينهما المكان — تتلاقى مع فكرة "وحدة الوجود"، التي ترى في كل الكائنات امتدادًا لنور الحق، مترابطة بخيوط خفية لا ترى بالعين، لكنها تُدرَك بالبصيرة.
في هذا كله، نجد أن الشكر ليس فقط خلقًا محمودًا، بل نظامًا بنيويًا يُبقي شبكة الحياة متصلة ومتزنة.
إذا نظرنا للشكر على أنه:
تفعيل لشبكة الامتنان في الدماغ،
وتواصل مع الآخرين في المجتمع،
وفتحٌ لباب الفيض في الروح..
فإننا أمام معادلة وجودية ثلاثية:
شكر الناس + شكر النعمة + شكر المنعم = إنسان متصل بالله والكون
ولذا فإن الحديث النبوي لا يُقرأ بوصفه خلقًا فقط، بل كـ معادلة كونية لا تقبل الخطأ:
«من لم يشكر الناس لم يشكر الله»
الشكر — في نهاية المطاف — ليس كلمة، بل وعيٌ، وذِكر، وفعل، ودوْرة طاقة، وإيمان.
ومن لم يشكر، فقد عطل أحد أعظم قوانين الوجود.