لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
كأنما الطبيعة قد رتّبت المسرح كله حول غاية واحدة.. غاية تُخفي بساطتها خلف زخارف هائلة من الألوان والأصوات والروائح واللذّات. فحين نتأمل في أبسط غرائز الكائنات الحية نجد أنّ اللذّة الكبرى التي أُعطيت لها – سواء أكانت جسدية أم حسّية – تدور في معظمها حول فعل التكاثر أو ما يوازيه من مقدمات. إنّ قوة الدافع الجنسي، وما يسبقه من إشارات ودلالات ورقصات غزل وأغانٍ وتلوّنات مذهلة في عالم الحيوان، ليست إلا وسائل لضمان استمرار السلسلة الحياتية. اللذّة هنا ليست إلا الجزرة التي تعلّقها الطبيعة أمام الكائن لكي يسير في الطريق الذي يُفضي في النهاية إلى تمرير الجينات.
حتى لذّة الحلاوة التي نجدها في السكر ليست معزولة عن هذا المخطّط الكوني. فالفاكهة – بألوانها المشرقة وطعمها الشهي – ليست إلا مصيدة بديعة، صاغتها النباتات كي تجذب من يأكلها، فتتولى أمعاؤه نقل البذور إلى أرض جديدة عبر الفضلات. ألوان الزهور، تلك البهجة التي تدهشنا بترتيبها الدقيق وانسجامها الساحر، ليست مجرد لوحة جمالية بلا غرض، بل هي لغة سرية، نداء موجّه للنحل والفراشات والحشرات الملقّحة، لكي تضمن عملية التزاوج النباتي.
وحين نصغي إلى تغريد الطيور، أو نتأمل ريش الطاووس الموشّى كفسيفساء ملونة، فإننا أمام رسائل إغراء لا تقل وضوحًا عن أي إعلان صاخب في شوارع المدن. إنّها دعوات موجّهة إلى الشريك المحتمل، إعلان عن الصحة، والقوة، والجينات الجيدة. حتى الجمال الذي نراه في الطبيعة ليس بريئًا من تلك الاستراتيجية.. إنه محكوم في النهاية بهاجس واحد: استمرارية الحياة عبر التكاثر.
السؤال الفلسفي العميق هنا: أهذه "الحيلة الكبرى" تعني أنّ الحياة لا تعرف غاية أخرى غير الاستمرار؟ هل كل أشكال الجمال، وكل اللذّات التي نعرفها، ما هي إلا وسائل وظيفية لخدمة جينات عمياء تسعى إلى تخليد ذاتها؟ ريتشارد دوكنز في كتابه "الجين الأناني" يذهب إلى حد القول إنّ الكائنات الحيّة ليست سوى "آلات بقاء" صُمّمت كي تحافظ على الجينات وتنقلها. في هذا التصوّر، يبدو أن الوعي نفسه، والشعور بالمتعة، وحتى الأحلام، ليست إلا أدوات فرعية في خدمة الغاية الكبرى.
ومع ذلك، فإنّ الإنسان حين يفتح عينيه على هذا اللغز يجد نفسه أمام مفارقة: كيف تحوّلت آليات بيولوجية صُمّمت للتكاثر إلى منابع شعر وفن وفلسفة؟ كيف صار الغناء الذي نشأ كصرخة إغواء جنسية، سيمفونية تمجّد الوجود؟ وكيف صار الجمال الذي خُلق ليغري النحل، موضوعًا للتأمل الميتافيزيقي عن معنى الحياة؟
ربما تكمن عبقرية الحياة في أنها، وهي تسعى باندفاع أعمى نحو التكاثر، خلقت في الطريق مساحات واسعة للتأمل، للفن، وللوعي بذاته. فكأنّ الحياة لا تكتفي بأن تكرّر نفسها، بل تزيّن هذا التكرار بمعنى، وتغمره بالدهشة.. حتى وإن كان جوهرها البيولوجي لا يعرف سوى شهوة البقاء.
في الرؤية الداروينية – كما أشرنا – يبدو أنّ الحياة تسير تحت إملاء "الجينات" وحدها، وأن اللذّة والجمال ليسا إلا وسائل لضمان استمرار النسل. لكن الأديان الكبرى ترى الأمر على نحو أعمق وأكثر غائية. ففي التصور الديني، التكاثر ليس غاية في ذاته بل وسيلة ضمن نظام أشمل، غايته إعمار الأرض وامتحان الإنسان في كيفية توجيه قواه وغرائزه.
الإسلام – مثلًا – يصرّح بأنّ "المال والبنون زينة الحياة الدنيا"، لكنه يذكّر بأنّ هذه الزينة لا تساوي شيئًا إن لم تقترن بالباقيات الصالحات (الكهف: 46). أي أنّ التكاثر ليس الغاية القصوى، بل مجرد محطة في مسيرة الامتحان الأخلاقي والروحي. الزواج والمتعة فيه، بل وحتى التلذذ الحلال، يُعدّان في الرؤية الإسلامية جزءًا من العبادة: "وفي بُضع أحدكم صدقة" كما جاء في الحديث. هنا تصبح اللذة نفسها ذات معنى ديني، تتجاوز وظيفتها البيولوجية إلى كونها فعلًا مقصودًا من الله، يختبر فيه نية الإنسان وتوظيفه لها.
المسيحية من جهتها كثيرًا ما نظرت إلى الشهوة بحذر، معتبرة إياها سيفًا ذا حدين: هي نعمة للحياة واستمرارها، ولكنها قد تصبح لعنة إن تحولت إلى غاية منفلتة عن مقاصد الله. ولهذا شددت بعض التقاليد المسيحية على العفة أو حتى الرهبنة، كوسيلة لتأكيد أنّ الإنسان ليس عبدًا للجسد، بل قادر على أن يسمو عليه في سبيل معنى أسمى.
أما في الديانات الشرقية، كالـهندوسية والبوذية، فنجد نظرة مختلفة: الشهوة والتكاثر يُعتبران جزءًا من "مايا" أو الوهم الذي يربط الروح بعجلة الميلاد والموت (السامسارا). ومن هنا كان التحرر عند البوذية يعني كسر هذا التعلّق، وتجاوز غواية اللذة التي تبقينا أسرى دورة لا تنتهي.
بهذا المنظور، يظهر أنّ ما يراه العلم "غاية نهائية" (التكاثر) ليس سوى مرحلة انتقالية في الرؤية الدينية. الأديان تجعل من اللذة والتكاثر أداة أو اختبارًا، لا غاية نهائية. فغاية الوجود، وفقًا لهذه الرؤى، ليست أن نمرّر جيناتنا فحسب، بل أن نكتشف سرّ وجودنا، ونواجه أسئلتنا الأخلاقية والروحية، ونمضي نحو "معنى" يتجاوز حدود البقاء الحيوي.
بكلمة أخرى: حيث يرى العلم في الجمال واللذة "خدعة الطبيعة" لضمان التكاثر، ترى الأديان فيهما "علامة" على مقاصد أعمق، بعضها يتصل بالامتحان الأخلاقي، وبعضها يوصل إلى تجربة الجمال كطريق لمعرفة الخالق.