لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
لطالما شغلت ظاهرة "التخاطر" خيال الإنسان، وارتبطت في الوعي الجمعي بقوى خارقة وأساطير تتجاوز حدود التفسير العلمي. غير أن التقدم في علوم الأعصاب والواجهات الدماغية أعاد طرح المفهوم على طاولة البحث، لكن بفارق جوهري: لم يعد السؤال عن وجود "قدرات خفية"، بل كيف يمكن تمكين الدماغ البشري من التواصل المباشر باستخدام أدوات وتقنيات حديثة. في هذا السياق، نُشرت الدراسة في أبريل 2019 في مجلة Scientific Reports، وأجرتها فرق بحثية من جامعتي واشنطن وكارنيجي ميلون ، تختبر إمكانية ربط ثلاثة أدمغة بشرية لتبادل المعلومات دون استخدام أي وسيلة لفظية أو حسية تقليدية. يُطلق على هذا المفهوم اسم "إنترنت العقول"، وهو ما يشكّل موضوع هذا المقال: عرض للتجربة، آليتها، نتائجها، وتداعياتها المستقبلية.
ما هي تجربة BrainNet؟
تجربة BrainNet تُعد أول نظام مباشر يربط أدمغة ثلاثة أشخاص غير متداخلين فعليًا، لمساعدتهم على اتخاذ قرار مشترك عبر لعبة بسيطة، دون أي تواصل لفظي أو حركي.
كيف جرى التواصل؟
المرسلون (Sender): شخصان يراقبان لعبة تشبه Tetris. عندما يفكر أي منهما "يجب تدوير القطعة"، يولّد دماغه نمطًا كهربائيًا يمكن التقاطه عبر EEG.
التشفير والترجمة: حواسب تترجم هذا النمط إلى "نعم" أو "لا" وترسله.
الاستقبال عبر الدماغ (TMS): تُوجه نبضات مغناطيسية إلى دماغ المستقبل. إذا كانت الرسالة “نعم”، يرى ومضة ضوئية صغيرة ↦ علامة "تدوير". وإذا لم تكن، لا يرى شيء ↦ علامة "عدم تدوير".
قرار النصف الثاني: بناءً على هذه الإشارات، يتخذ المستقبل قراره، ويسجله عبر EEG.
جولة تصحيح: يمكن للمرسلين أيضًا مراجعة هذا القرار في جولة ثانية وتصحيحه إن لزم.
ماذا وجدت الدراسة؟
نجاح 81%: في معظم الحالات، تمكن الثلاثة من التنسيق واتخاذ القرار الصحيح .
اختيار المعلومات الموثوقة: عندما تقل جودة إشارات أحد المرسلين، يبدو أن المستقبل يميل تلقائيًا إلى الاعتماد على الآخر، مما يدل على قدرة على انتقاء المصادر الأكثر موثوقية حتى عبر الدماغ .
لماذا هذا مهم؟
رسم خطوات فعلية باتجاه "إنترنت العقول": يوضح أن الدماغ قادر على إرسال واستقبال معلومات عبر واجهة كهربائية ومغناطيسية.
التواصل بدون كلام أو حصرات حركية: لا حاجة للغة أو للحركة؛ التواصل يتم بالكامل داخل الدماغ.
أساس بحثي دقيق: أعتمد البحث على سجلات EEG وTMS، وتحليل البيانات الكمي؛ وتقييم الأداء عبر مقاييس مثل Mutual Information، وليس مجرد قراءة "نجاح/فشل".
ما حدود هذه الدراسة؟
المعلومات المنقولة هي بسيطة جدًا (نعم/لا).
تستخدم معدات معقدة ومتخصصة (EEG + TMS)، وليست عملية بعد.
التحديات التقنية: مقدار البيانات المنقولة قليل، وتأثرها بالضوضاء واضح.
التحديات الأخلاقية: الخصوصية، إمكانية إعادة برمجة السلوك، وغيرها.
ماذا يعني هذا؟ وما المستحيل والقادم؟
إنذار مستقبل "إنترنت العقول":
هذه ليست تخاطرًا غامضًا، بل أول دليل ملموس على التواصل الدماغي بين أكثر من شخص بطريقة علمية دقيقة.
نطاق المعلومات محدود:
ما نُقل هنا معلومات بسيطة (بَيَن/لا بَيَن)، وليس محتوىً فكريًا أو ذاكرة أو مشاعر.
الأدوات المعقدة:
الاعتماد على EEG وTMS يجعل التجربة غالية ومعقدة، وتستهدف البحث العلمي أكثر من التطبيقات الفورية.
اتجاهات مستقبلية:
الباحثون يقترحون دمج تقنيات مثل fMRI أو tFUS لزيادة سرعة وكمية المعلومات المنقولة .
تُدرس إمكانية إرسال معلومات ذات معنى، كالأفكار أو الصور أو الذكريات، عبر تحفيز مناطق دماغية أخرى.
تحديات ومعوقات:
فنية: معدل الإرسال منخفض، والضوضاء مرتفعة.
أخلاقية: للخصوصية وأهلية المشاركة، واستخدامها—مثلاً—في المجال العسكري أو مراقبة الأفكار.
ما الجديد في الأبحاث حول BrainNet؟
تحليل آليات الثقة الانتقائية في الدماغ، أي كيف يُفضل المستقبل إشارة مرسل معين أو تجاهل الآخر .
اقتراحات دمج tFUS (تشتت مغناطيسي مركز) وfMRI لتحسين الجودة ونعومة الإرسال.
بحث أخلاقي وفلسفي يُعالج تأثير واجهات الدماغ على الهوية والانتماء إلى "جسد جماعي" .
الخلاصة
تجربة BrainNet ثورة صغيرة: ليست تخاطرًا غامضًا، بل خطوة علمية محكمة نحو تشكيل شبكة دماغية بشرية حقيقية. نتعلم هنا كيف يمكن للدماغ أن ينتج ويفك شفرات المعلومات، ويتعامل مع موثوقيتها. الفترة القادمة ستشهد ثقوبًا في جدار الواقع العلمي، وربما تُظهر مستقبلًا أكثر اتصالًا بين العقول من أي وقت مضى.
______________
EEG – Electroencephalography
التخطيط الكهربائي للدماغ
وظيفته: جهاز يُستخدم لقياس النشاط الكهربائي للدماغ من خلال أقطاب تُثبت على فروة الرأس.
كيف يعمل؟ يرصد الإشارات العصبية (مثل التفكير أو التركيز) ويحوّلها إلى بيانات يمكن تحليلها.
في التجربة: استُخدم لتسجيل قرارات المرسلين (هل يجب تدوير القطعة؟ نعم/لا).
TMS – Transcranial Magnetic Stimulation
التحفيز المغناطيسي عبر الجمجمة
وظيفته: جهاز يُحدث نبضات مغناطيسية قصيرة لتحفيز مناطق معينة من الدماغ من دون تدخل جراحي.
كيف يعمل؟ يولد مجالًا مغناطيسيًا صغيرًا يخترق الجمجمة ويؤثر على الخلايا العصبية.
في التجربة: استُخدم لإرسال ومضات ضوئية داخلية (phosphenes) إلى "المستقبل" كي يتلقى إشارات من الآخرين.
BrainNet
اسم التجربة أو النظام المُجرّب
تعني: "شبكة الدماغ" أو "إنترنت العقول".
ما هو؟ نموذج أولي لواجهة تربط عدة أدمغة بشرية بحيث تتبادل المعلومات مباشرة.
Mutual Information
المعلومات المتبادلة
وظيفته: مقياس رياضي يُستخدم لتقدير مدى الارتباط بين إشارتين أو مصدرين للمعلومات.
في التجربة: استُخدم لتقييم جودة التواصل بين المرسل والمستقبل.