لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
منذ الأزل، كان الصراع، والافتراس، والتفاوت، جزءًا أصيلاً من الطبيعة. الإله لم يخلق عالمًا بلا أضداد، بل خلق الخير والشر، الظلم والعدل، النور والظلمة، الحياة والموت. والمفارقة أن هذا التكوين المزدوج لا يعني مباركة للشر، بل هو بيانٌ على حرية الكائن العاقل في اختيار الطريق، وتحمل تبعاته.
فهل رأيت من قبل احتجاجًا كونيًا على ضفدع التهم ذبابة؟ أو على أفعى التهمت ضفدعًا حيًا؟ وهل اهتزت السماء حين أصابت جرثومة قاتلة جسدًا بشريًا؟ إن الطبيعة تسير وفق قوانين البقاء، وليس وفق قيمنا المتخيلة عن العدالة.
كأن الناس تنتظر من العالم أن يكون فردوسًا أخلاقيًا، أو حديقة مثالية تثمر عدالة وسلامًا فطريًا. لكن هذا التصور الرومانسي عن العالم اصطدامه بالواقع يولد خيبة متكررة: لماذا لا يسود الخير؟ لماذا يُترك الظالم؟ لماذا ينتصر الأشرار وتُكسر ظهور الأبرياء؟
والجواب العميق ليس في "لماذا"، بل في "لم لا؟"
من قال إن العالم كُوِّن ليكون عادلًا؟
من الذي أوهمنا أن الوجود يتبع أخلاقنا لا قوانينه؟
وهل نسينا أن الله ذاته، في لحظة الخلق الأولى، أعلن عن وجود الضدين: الخير والشر، النور والظلمة، الرحمة والقسوة، الإعمار والإبادة؟
إن الوجود كما هو، ليس لوحة أخلاقية، بل تجربة حرية. ليس فردوسًا سماويًا، بل ميدانًا لاختبار القدرة على الاختيار، وتحمل نتائج الفعل، سواء أكان نبيلاً أم منحطًا.
الإنسان يمارس طقسًا فريدًا من الانتقاء الأخلاقي. ينزعج بشدة من الظلم حين يصيبه أو يصيب من يشبهه، ثم يتماهى معه إن كان في صالحه أو يخدم مصالح وطنه أو دينه أو قبيلته.
يذرف الدموع على ضحية الحرب البعيدة، لكنه يبرر القصف حين يأتي من سلاح جيشه الوطني. يلعن الاستعمار القديم، لكنه يحتفل بالغزو الاقتصادي الحديث إن كان يحمل له امتيازات استهلاكية.
الكون لا يرحب بمثل هذا التناقض. بل يحتفي بقيمة واحدة خالدة: القدرة على التكيف. فالطاووس سيفنى مع زوال قيم الزينة. والديناصور انقرض حين لم يعد ضخامته صالحة للعصر. وفرس النهر، بقوته الهائلة، سيودع الوجود إن لم يقم ذكاؤه مقام عضلاته.
ترامب، ذاك الذي ينظر إليه كثير من العرب بازدراء أو استهجان، ليس كائنًا طارئًا أو خارجًا عن النسق الأمريكي. بل هو تعبير نقي عن الفلسفة الوظيفية للسلطة الحديثة. رجل يفكر بمقاييس الربح والخسارة، يحرك أدوات القوة لحساب بلده، ويستثمر الفرص لخدمة أمته.
هو ليس "عادلاً" بمفهومنا العاطفي، لكنه "عادل" بمفهوم الوظيفة السياسية: عادلٌ في ولائه، في غايته، في خدمته لهوية سياسية محددة هي أمريكا.
والسؤال الحقيقي ليس: لماذا هو هكذا؟
بل: لماذا لا نملك نحن قادةً يفكرون بهذه العقلانية الباردة ذاتها لصالح شعوبهم؟
في هذا الكون، لا يُكافأ الأجمل، ولا يُرحم الأضعف، ولا يُفضل الأكثر تدينًا، بل يُمنح البقاء لمن يحسن التصرف، ويطور أدواته، ويتكامل مع محيطه.
ولذلك، فالبكاء على ضحايا الظلم لن يغير من حقيقة العالم شيئًا، ما لم نصنع نظمًا ذكية، ومؤسسات مرنة، وقيمًا قابلة للعيش لا للهتاف فقط.
فيا من تنظر إلى المظالم بدهشة وكأنك زائرٌ حديث للعالم:
أفق من غفلتك.
واقرأ هذا العالم كما هو، لا كما تُحب أن تراه.
فالعدل ليس قائمًا في الكون كله، لكنه مأمورٌ به في ضميرك.
والبقاء ليس وعدًا إلهيًا للصالحين، بل نتيجة حتمية للأكفأ، وإن كان شريرًا.
وختاما، قد تكون الحياة في مجملها مشهدًا عبثيًا لا يفهمه العقل الساذج، لكنها –بقدر ما تحمل من قسوة– تبقى أفضل اختبار للقدرة على الحكمة، لا على الاندهاش.
فلتتوقف عن السؤال: "لماذا كل هذا الظلم؟"
واسأل بدلاً منه: "كيف يمكنني أن أكون قوة عدلٍ لا قوة نحيب؟"
"ما أكثر الدروس التي يلقيها الكون علينا، لكننا لا نسمع سوى صوت الشكوى."