لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
كان المطر يهطل بغزارة على شوارع فرانكفورت حين خرجتُ من عملي متأخرًا كالمعتاد. كنتُ متعبًا، والمدينة تنبض بأضوائها الباهتة تحت السماء الملبدة بالغيوم. وبينما كنتُ أعبر الجسر الحجري المؤدي إلى شقتي، لاحظتُ امرأة تقف هناك بلا مظلة، شعرها الأسود الطويل ينسدل على كتفيها، وعيناها تائهتان في مياه النهر المتدفقة.
شعرتُ بشيء غريب يجذبني نحوها. ترددتُ للحظة، ثم اقتربتُ وسألتها بلطف: "هل أنتِ بخير؟"
رفعت رأسها ببطء، ونظرت إليّ بنظرة بدت وكأنها تحمل ألف حكاية. قالت بصوت خافت: "هل سبق لك أن شعرت بأنك لستَ جزءًا من هذا العالم؟ أن هناك مكانًا آخر تنتمي إليه، لكنك لا تعرف أين؟"
لم أعرف بماذا أجيبها، لكن كلماتها علقت في ذهني. سألتها: "هل يمكنني مساعدتك؟"
ابتسمت ابتسامة خفيفة، ثم مدت يدها وقدمت لي شيئًا صغيرًا: مفتاح قديم يبدو عليه القدم والصدأ. "احتفظ به،" قالت، "حين تجد الباب الصحيح، ستفهم."
استيقظتُ يومها وأنا أتصبّب عرقًا، رغم أن الشتاء في برلين كان في ذروته. الساعة الثامنة والنصف صباحًا. هاتف ممدد بجواري كجثة، يصرخ منبّهه منذ ربع ساعة. نظرت إليه، ثم إلى السقف المكسوّ بضوء رماديّ باهت.. لا جديد.
عدلتُ جلستي على السرير الخشبي في شقتي بحيّ "نويكولن"، وفتحت تطبيق البنك كمن يفتح بريدًا إلكترونيًا بائسًا، فإذا بي أتجمد.
الرصيد: 389,920.00 يورو.
رمشت مرة. مرتين. ثم أعدت تحديث الصفحة، فقط لأتأكد من أنني لست ضحية خدعة بصرية.
لكني لست من الذين يفرحون سريعًا.. أو يثقون سريعًا.
في يوم رمادي، بدت القرية كأنها تسترجع ذكرياتها القديمة. كانت السماء منخفضة، كأنها تغطي بظل حزين رأس كل من سار في طرقاتها الترابية. في مقبرة القرية، جثا خالد على ركبتيه، يقرأ الفاتحة على قبر جدّه الفقيه يحيى، الذي عاش حياته يخشى أن يُفتن بالعلم كما يُفتن بالذهب. على باب المقبرة، نقش قديم يقول: "من قرأ ولم يعمل، ضلّ."
ورث خالد عن جدّه مفتاحًا صغيرًا من خشب السدر، ليس من الذهب ولا الحديد، بل من تلك المواد التي لا تُصنع، بل تُختار.
بعد أسبوع من وفاة الفقيه يحيى، بدأ خالد يتفقّد بيت جدّه القديم، الحجري ذو الطابقين، الذي ظل واقفًا في زاوية القرية كأنه ينتظر أحدًا ليعتذر له عن هذا النسيان الطويل.
البيت كان ساكنًا كالقبر، لا صدى فيه إلا لذكريات تتسكع في الزوايا مثل أرواح لا تعرف أنها ماتت. لم يبقَ فيه أحد بعد رحيل آخر ساكنيه: الفقيه، بعد موت أو اغتراب عائلته.
دخل خالد غرفة الجدّ، تلك الغرفة التي لم يكن مسموحًا لأحد بفتحها أثناء حياة الفقيه. رائحة المسك القديم امتزجت بالخشب البالي، والكتب المصفوفة على الجدران كأنها شهود صامتون على مناجاة عمرها عقود.