لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
"يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ" (الانشقاق: 6).
كأنما خُلق الإنسان ليجد نفسه في ساحة الرحلة، لا استقرار فيها إلا في نهايتها، ولا راحة دائمة إلا عند الوصول. فمنذ لحظة الوعي الأولى، يدرك أنه في كدحٍ دائم، في مسير لا ينقطع، وكأن هذه الدنيا ليست إلا معبرًا، طريقًا طويلًا يتخلله السير والعرق والسقوط والقيام.
تلك الحقيقة تتجلى في الآية العظيمة, إنها كلمات تلخص كل شيء: أنت تسير، شئت أم أبيت، ولن يكون هذا السير إلا كدحًا، جهدًا مستمرًا، حتى تصل إلى لحظة اللقاء الحتمي. ولكن السؤال الأهم: كيف يكون هذا اللقاء؟ بأي وجهٍ وأي حالٍ ستقف بين يدي خالقك؟
ليست الطريق ممهدة، بل هي مليئة بالمنعطفات والتحديات، لأنك لا تعيش وحدك، بل وسط مليارات من البشر، في عالم مزدحم بالصراعات، مليء بالتنافس، مشحون بالأهواء والشهوات والمغريات.
النفس ذاتها ليست ساكنة، بل تضج بالرغبات، تتقلب بين الطمع والخوف، بين البذل والبخل، بين الشهوة والزهد، بين الطاعة والمعصية. والإنسان في وسط هذا كله مطالب بأن يحافظ على بوصلته، أن لا يتوه عن الهدف، أن يسير رغم العثرات، أن ينهض بعد كل سقوط، وأن يجعل الله غايته، والحق طريقه، والنور دليله.
كل موقف يمر به الإنسان هو رسالة، كل حدث هو درس، كل عثرة هي إشارة، وكأن الدنيا كلها مجموعة من العلامات التي تقوده إلى معرفة الله.
حين يُبتلى، يدرك معنى الصبر.
حين يُعطى، يعرف قيمة الشكر.
حين يُظلم، يتعلم العدل.
حين يُخذل، يفهم أن الاعتماد على البشر زائل، وأن الله وحده هو الباقي.
تلك التجارب والمحن ليست عشوائية، بل خيوط دقيقة في نسيج الرحلة، تهيئ الإنسان للقائه بربه، ليعرفه أكثر، ليقترب منه، ليصقل روحه ويجعلها أكثر صفاءً وإشراقًا.
ليس الفائز من جمع المال أو بلغ المجد الدنيوي، بل من عرف الطريق وسار فيه رغم العوائق.
السعيد حقًا من أدرك أن هذا الكبد ليس عبثًا، وأن الألم ليس بلا معنى، وأن الصراع ليس سوى اختبار، وأن لقاء الله هو المحطة الأخيرة، حيث تنكشف الحقائق، ويظهر لكل إنسان ثمرة كفاحه.
"فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا، وَيَنقَلِبُ إِلَىٰ أَهْلِهِ مَسْرُورًا" (الانشقاق: 7-9).
في نهاية المطاف، لن تبقى إلا حقيقتك، مجردة من كل زخرف الدنيا، خالية من كل ما حملته معك، إلا قلبك وأعمالك.
هناك، عند اللقاء، يدرك الإنسان أن كل شيء كان يستحق، أن كل الدموع التي انهمرت، وكل الآلام التي عاشها، وكل التحديات التي واجهها، لم تكن إلا خطوات تقربه من ذلك النور العظيم.
وهنا فقط، يفهم معنى قوله تعالى:
"وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ" (القيامة: 22-23).
وهو النعيم الذي لا يضاهيه شيء: أن تنتهي الرحلة، وتبدأ الحياة الحقيقية في حضرة الله.