لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
من بين الروايات التي تستوقف القارئ في كتب التاريخ الإسلامي، تلك التي يرويها الطبري في تاريخ الأمم والملوك عن حوار دار بين الخليفة عمر بن الخطاب وأحد قادة الفُرس الأسرى، الهرمزان، عقب معركة فاصلة انتهت بهزيمة الفرس. رغم أن إسناد الرواية لا يخلو من مقال، لورود سيف بن عمر التميمي في سلسلتها، وهو راوٍ ضعّفه المحدثون، إلا أن مضمونها يعكس تحليلاً سياسيًا وفكريًا عميقًا يُنسب إلى عمر بن الخطاب، ويستحق التأمل بوصفه تعبيرًا عن فهم سننيّ لقوانين النصر والهزيمة في حياة الأمم.
قال عمر: "هيه يا هرمزان، كيف رأيت وبال الغدر وعاقبة أمر الله؟"
قال الهرمزان: "يا أمير المؤمنين، إنا وإياكم في الجاهلية كنا في عمياء، فغلبناكم إذ لم يكن الله معنا ولا معكم، فلما كان معكم غلبتمونا."
فقال عمر: "إنما غلبتمونا في الجاهلية باجتماعكم وتفرقنا."
جاء كلام الهرمزان ليعلل هزيمتهم بأن الله كان مع المسلمين في هذه الجولة من الصراع، بعد أن كان "محايدًا" - بتعبيره المجازي - في مرحلة الجاهلية. وهو تفسير ذو طابع قدري/لاهوتي، يركن إلى فكرة أن النصر والهزيمة أمر إلهي محض.
لكن رد عمر بن الخطاب جاء على نقيض ذلك تمامًا، إذ رفض ردَّ الأمور إلى المشيئة الغيبية دون النظر في الأسباب المادية والاجتماعية والسياسية، وقال:
"إنما غلبتمونا في الجاهلية باجتماعكم وتفرقنا."
هذا الجواب يفتح نافذة على منظور عقلاني وسنني لفهم التاريخ وحركة الشعوب. عمر هنا لا ينفي تدخل العناية الإلهية، لكنه يرى أن النصر مشروط باتباع سننٍ ثابتة تحكم سلوك الأمم.
يتجلى في هذا الموقف إدراك عميق لحقيقة قررها القرآن الكريم نفسه مرارًا، أن النصر والهزيمة ليسا عشوائيين، بل تحكمهما قوانين وسنن إلهية:
"إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"
"إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم"
"وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئًا"
ليست الغلبة إذًا مجرد وعد إلهي، بل نتيجة طبيعية لمقدمات واقعية: وحدة الصف، وضوح المشروع، وجود القيادة، والانضباط الداخلي. هذا ما قصده عمر عندما نسب الغلبة للفرس في الجاهلية إلى اجتماعهم كدولة وإدارة وجيش، بينما كان العرب قبائل متفرقة ممزقة.
ما حدث بعد الإسلام لم يكن "نصرًا آليًا" لأن الله أصبح مع المسلمين فحسب، بل لأن الإسلام:
وحّد العرب تحت عقيدة جامعة.
أنشأ دولة حقيقية بمؤسسات سياسية وعسكرية وقضائية.
حوّل الانتماء من القبيلة إلى الأمة.
أعاد صياغة الإنسان العربي أخلاقيًا وذهنيًا.
وهكذا، فإن ما وصفه الهرمزان بأنه "الله صار معكم"، فسره عمر بأنه تحقق الشروط التي لا يأتي النصر بدونها. لقد أصبح العرب أمة، بعد أن كانوا قبائل. أصبح لهم مشروع جامع، بعد أن كانوا غارقين في صراعاتهم الهامشية.
نحن اليوم، كأمة، لا نفتقر إلى الإيمان المجرد أو الشعارات، ولكننا بحاجة ماسّة إلى استحضار منطق عمر وتطبيقه في واقعنا:
نحتاج إلى وحدة حقيقية لا شكلية، تقوم على مشروع مشترك، لا على خطابات مناسباتية.
نحتاج إلى تعليمٍ جاد يحرر العقول لا يجمّدها، وإلى بحث علمي يُبنى عليه، لا يُركن في الرفوف.
نحتاج إلى العدل والمساواة كأساس للتعامل، والشورى والشفافية كمنهج حكم.
نحتاج إلى القانون والنظام والتفاني في العمل، وقول الحق دون تحيز أو خوف.
نحتاج إلى قيم نبيلة تعيد تشكيل وعي الأفراد والمؤسسات: الصدق، الأمانة، الكفاءة، الإخلاص، المسؤولية.
فهذه هي سنن النهوض التي إن تحققت، أقبلت العناية الإلهية، وإن غابت، فلا يكفي الدعاء وحده.
ما قاله عمر ليس تأملًا شخصيًا فحسب، بل درسٌ خالدٌ في فقه الحضارات. لقد فهم أن الله لا ينصر من لا ينصر نفسه أولًا، ولا يرفع من لا يُقيم أسباب الرفعة.
هكذا يُفكر من حمل مشروعًا حضاريًا لا يعتمد على الغيب المجرد فحسب ، بل على الوعي العميق بسنن النهوض والانحدار.
✍️ من هنا، تكون رواية عمر والهرمزان – رغم ما في سندها من ضعف – مرآةً نادرة لروح العقل السنني في الإسلام الأول.. تلك الروح التي أدركت أن السماء لا تمنح النصر لمن لا يستحقه، ولا تحفظ كرامة أمة لا تحمي أسباب قوتها.