لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
الحياةُ على كوكب الأرض تيارٌ متدفق لا يعرف السكون، تتقن الالتفاف على العوائق والمحن بطريقتها الخاصة، وتستمر في جريانها منذ أكثر من ثلاثة مليارات عام. تتشعّب وتتفرع، تمرّ بانعطافات وتقلّبات، وقد تفقد بعض أجزائها في الطريق، لكنها لا تنقطع. إنها منظومة تحكمها قوانين صارمة في أدق تفاصيلها؛ تزدهر حينًا، وتخبو حينًا آخر، تمرض، ثم تتعافى، وتعود إلى الانطلاق كالنهر، لا يوقفه تغيّر التضاريس.
الحياة على الأرض استثناءٌ نادر في منظومتنا الشمسية، بل لعلها الوحيدة فيها، وفقًا لأفضل ما توصلت إليه معارفنا الحالية. فالأرض وحدها هي التي اجتمعت فيها الظروف المناسبة للحياة: تقع ضمن النطاق الحيوي الذي يسمح بدرجات حرارة مستقرة نسبيًا، وتمتلك غلافًا جويًا غنيًا بالعناصر الملائمة للحياة العضوية القائمة على الكربون، فضلًا عن غلاف مغناطيسي يقيها من الإشعاعات الكونية والجسيمات المهلكة.
توزيع اليابسة والماء، وبعد الأرض المناسب عن الشمس، كلّها عوامل اجتمعت لتجعل هذا الكوكب حاضنًا للتنوع البيولوجي الهائل، من أعالي الجبال إلى أعماق المحيطات، ومن الصحارى القاحلة إلى الغابات المطرية، حيث تكيفت الكائنات الحية مع بيئاتها بأشكال مذهلة.
وفي قلب هذا المشهد الكوني يقف الإنسان، الكائن الأعلى عقلًا، والأضعف جسدًا مقارنةً بسائر المخلوقات. لكنّ عقله وتعاونه مكّناه من تسخير ما حوله: روّض الأرض والماء والهواء، وها هو يطرق أبواب الفضاء. ابتكر العقول السيليكونية، واستخرج من جوف الأرض ما تحتاجه حضارته من معادن وثروات لتوليد الطاقة وبناء الصناعة.
غير أن هذه القفزة الحضارية جاءت بثمن باهظ. فأنشطة الإنسان الصناعية والطاقية بدأت، من حيث لا يدري، تلحق الأذى بالكوكب ذاته. لقد أدت إلى تسارع احترار الأرض، وخللٍ في توازناتها المناخية، وظهور تطرف غير مسبوق في الظواهر الطبيعية التي تقوم عليها الحياة.
ويبدو، بحسب منطق الحياة ذاته، أن الأرض بما هي عليه من قوانين تناغمية، لا تدافع عن الإنسان وحده، بل عن الحياة بأسرها كنظام متكامل. فحين يُهدد الإنسان هذا النظام، قد ترتدّ عليه النتائج بما يُهدد وجوده نفسه، ويؤثر في كل الكائنات الحية التي تشاركه هذا الكوكب الأزرق الجميل.
ولعل هذا من سنن الكون الكبرى، قانونٌ كونيٌّ موضوع في نسيج الوجود، مفاده أن كل ما يُخلّ بالنظام المتوازن، يظهر له من داخل المنظومة ذاتها ما يعيد التوازن ويمنع الانهيار. إنه التدافع، ذلك القانون الذي يحفظ استقرار الكُل، ويمنع طغيان جزء على حساب البقية.
الحياة لا تعبأ بنوعٍ معين، ولا تضع قيمة مطلقة لجنس أو فرد، إذ الكل داخل مخططٍ أعلى، محكومٍ بهدف أسمى: استمرار النظام في أداء وظيفته الكبرى، حتى يأذن الخالق بوقفه.
طابت أوقاتكم