لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
يتكرر عبر التاريخ مشهد مفارق يعكس أحد الأوجه المركّبة للطبيعة البشرية: فالمطالبة بالعدالة لا ترتبط بالضرورة بإيمان راسخ بقيمتها، بل قد تكون في كثير من الأحيان تعبيرًا عن موقع ذاتي في معادلة القوة والضعف. فالإنسان، في حالة الضعف أو عندما يتعرض للظلم، يميل بطبيعته إلى رفع صوت الاحتجاج، مستنكرًا الغبن، ومطالبًا بإنصافه. غير أن هذه المطالبة بالعدالة، وإن بدت في ظاهرها نبيلة، كثيرًا ما تنكشف عن دافع نفعي، لا عن التزام مبدئي بالعدالة كقيمة أخلاقية وإنسانية.
ومع تحوّل موازين القوى وتبدّل المواقع، يُلاحظ أن العديد من الأفراد والجماعات ممن كانوا يرفعون شعارات الإنصاف، يتحولون – حين تُتاح لهم السيطرة – إلى ممارسة نفس أنماط الظلم التي كانوا ضحايا لها. ومن هنا تبرز المفارقة: العدالة، التي كانت تُطالب بها بإلحاح، قد تُصبح أداة تُستخدم لإعادة إنتاج الهيمنة وتعزيز النفوذ لا لتحقيق المساواة أو رفع الحيف عن الآخرين.
هذا السلوك يشير إلى وجود بُعد نفسي واجتماعي معقّد في علاقة الإنسان بالعدالة، يتمثل في توظيفها كأداة استراتيجية تُفعّل عندما تخدم المصلحة الذاتية، وتُعطل عندما يُخشى أن تقوّض موقع التفوق أو الامتياز. وهو ما يطرح تساؤلات أخلاقية وفلسفية عميقة حول صدقية الالتزام بالعدالة، وحدود تمثلها كمبدأ إنساني عالمي.
جدير بالذكر أن هذا النمط السلوكي ليس معزولًا عن سياقاته التاريخية؛ فقد تكرر ظهوره في سياقات متعددة، من النزاعات السياسية والتحولات الثورية، إلى التفاعلات اليومية بين الأفراد داخل المجتمعات. ويكشف هذا التكرار عن حقيقة مزعجة: أن التمكين لا يضمن بالضرورة انتقالًا إلى ممارسة عادلة، بل قد يكون مدخلًا لإعادة إنتاج البنية الظالمة بوسائل جديدة وأشكال مختلفة.
من هنا، تبرز أهمية ترسيخ العدالة كثقافة قيمية ومبدأ أخلاقي، لا كمجرد أداة ظرفية تُستدعى وقت الحاجة وتُهمل عند الاستغناء عنها. فالعدالة الحقيقية لا تُقاس بقدرة الفرد على المطالبة بها حين يُظلم، بل بقدر التزامه بها حين يُمكّن.