لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
عندما كنت أتجول في المتحف بمدينتنا، استعنت بدليلة لشرح اللوحات القديمة التي يعود بعضها إلى مئات السنين. ولاحظت أثناء تأملي لأزياء الأوروبيين في تلك العصور كيف كانت تختلف بشكل واضح عن أزياء المناطق الأخرى في العالم. فقلت لها إن هناك عاملًا مشتركًا يفسر معظم الاختلافات في أزياء الناس، وألوان بشرتهم، وملامح وجوههم عبر مختلف الحضارات: وهو الشمس.
بدت الدليلة متفاجئة، فسألتني المزيد عن هذا الربط. أوضحت لها أن العلاقة بين شدة التعرض للشمس وأزياء الناس واضحة جدًا عند التأمل:
الأزياء والألوان:
في المناطق ذات الشمس القليلة (مثل شمال أوروبا)، يحتاج الناس إلى تدفئة أنفسهم، لذا نجد أزياءهم عادةً ثقيلة ومتعددة الطبقات، وتميل للألوان الداكنة التي تحتفظ بالحرارة.
بينما في المناطق ذات الشمس الوفيرة والحارة (مثل إفريقيا أو الجزيرة العربية)، نجد الملابس أخف وزنًا وأقل كثافة، وتميل للألوان الفاتحة التي تعكس أشعة الشمس وتحمي الجسم من الحرارة الزائدة.
لون البشرة والشعر والعينين:
في المناطق المشمسة، يميل لون البشرة إلى الداكن تدريجيًا حتى السواد؛ لأن الجسم يزيد إنتاج صبغة الميلانين لحماية الجلد من أضرار الأشعة فوق البنفسجية، كما يصبح الشعر أكثر تجعدًا (أكرت) ليساعد في تهوية الرأس وتقليل تأثير الشمس المباشر على فروة الرأس.
أما في المناطق قليلة الشمس، فيقل إنتاج الميلانين؛ لأن الجسم بحاجة للاستفادة القصوى من أشعة الشمس القليلة لتكوين فيتامين D، فيصبح لون البشرة أفتح، والشعر أفتح لونًا (حتى الأشقر)، ويصبح أملسًا.
كذلك لون العينين؛ إذ تصبح فاتحة (زرقاء أو خضراء) في البيئات ذات الشمس الضعيفة، لأن قلة الميلانين في قزحية العين تجعلها أقل تصبغًا.
شكل الأنف:
في المناطق الحارة والرطبة (كالاستوائية)، يكون الأنف أعرض ليسمح بدخول كميات أكبر من الهواء الرطب وتبريده.
في المناطق الباردة والجافة، يميل الأنف إلى أن يكون أنحف وأطول ليسخّن الهواء قبل دخوله إلى الرئتين، مما يساعد في تقليل مشاكل التنفس في الأجواء الباردة.
العادات والتقاليد والمعتقدات:
في المناطق الحارة المشمسة، ارتبطت الشمس بآلهة وقوى عليا في معتقدات الشعوب القديمة، مثل المصريين الذين قدسوا إله الشمس رع، لأنهم رأوا في الشمس مصدرًا للحياة والنماء.
في المناطق الباردة، شاعت طقوس واحتفالات تُقام في أوقات الانقلاب الشمسي أو عند بزوغ الشمس بعد فترات ظلام طويلة، تعبيرًا عن الامتنان لعودة الدفء والضوء.
حتى العادات الاجتماعية تأثرت؛ ففي البيئات الحارة، تطورت تقاليد الضيافة والجلوس في الظل وشرب المشروبات الباردة، بينما في البيئات الباردة ظهرت عادات التجمع حول النار وتقاسم الطعام الساخن.
هذه العوامل البيئية أسهمت أيضًا في رسم قيم المجتمع مثل تقديس أو مهابة بعض الظواهر الطبيعية، وتفسيرها أحيانًا كرسائل أو غضب من الآلهة.
اختُتم الحديث بقولها إنها لم تنظر من قبل إلى تاريخ الأزياء وألوان الناس بهذه الطريقة المرتبطة بالشمس وتأثيرها المباشر على تكوين الإنسان واحتياجاته الطبيعية.
وللعلم هذه معلومات موثوقة: تعتمد هذه التفسيرات على أبحاث علمية في علم الأنتروبولوجيا (علم الإنسان) والبيولوجيا التطورية.