لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
ابراهيم الهجري
تاريخيًا، تمر الدول بمراحل متعددة تتراوح بين الازدهار والانحسار، لكن الفرص الحقيقية للنهوض تكون نادرة، إذ تأتي في الفترات الفاصلة بين الأحداث الكبرى، حيث تتغير موازين القوى وتُعاد صياغة معادلات الهيمنة الاقتصادية والعلمية. في هذا السياق، نجد أن دول الخليج، وعلى رأسها السعودية، تمتلك اليوم فرصة ذهبية للعب دور محوري في خارطة الابتكار والتقدم العلمي والتكنولوجي.
ما يميز هذه اللحظة التاريخية هو أن العالم يشهد ثورة معلوماتية غير مسبوقة، في وقت تواجه فيه الدول المتصدرة تحديات داخلية تتراوح بين الأزمات الاقتصادية والتوترات السياسية، مما يفتح المجال أمام قوى جديدة لملء الفراغ وتحقيق قفزات نوعية في مختلف المجالات.
لماذا تمتلك دول الخليج فرصة لا تعوض؟
تمتلك دول الخليج العربي، وخاصة المملكة العربية السعودية، مجموعة من المقومات التي تجعلها مؤهلة للاستفادة من هذه الفرصة التاريخية، وأبرزها:
القوة الاقتصادية والموارد المالية الضخمة:
تتمتع دول الخليج بثروات مالية ضخمة تمكنها من الاستثمار بقوة في البحث العلمي والتطوير التكنولوجي، وهو ما يشكل حجر الأساس لأي نهضة مستقبلية.
الرؤية الاستراتيجية والإصلاحات الطموحة:
تمثل رؤية السعودية 2030 نموذجًا واضحًا لرؤية طويلة الأمد تستهدف تحقيق التنمية المستدامة، وتنويع الاقتصاد بعيدًا عن النفط، مع التركيز على الابتكار والتكنولوجيا.
البنية التحتية المتقدمة:
توفر هذه الدول بيئة حضرية متطورة، تشمل شبكة طرق متقدمة، مدن ذكية، ومناطق اقتصادية خاصة، مما يسهل عملية جذب الشركات والمواهب العلمية.
الاستقرار السياسي والأمني:
في وقت تعاني فيه العديد من الدول الكبرى من اضطرابات داخلية، تحظى دول الخليج باستقرار سياسي وأمني يُعد عاملًا حاسمًا في جذب رؤوس الأموال والعقول المتميزة.
التوجه نحو الاقتصاد المعرفي:
تعمل دول الخليج بشكل متسارع على تبني نموذج الاقتصاد القائم على المعرفة، مستفيدة من إمكاناتها في التحول الرقمي، والذكاء الاصطناعي، وتكنولوجيا الطاقة النظيفة.
المتطلبات الأساسية للنهضة العلمية والتكنولوجية
لكي تستفيد دول الخليج من هذه الفرصة النادرة، ينبغي اتخاذ خطوات حاسمة على عدة محاور رئيسية:
استثمار ضخم في البحث العلمي والتطوير:
زيادة الميزانيات المخصصة للأبحاث العلمية والتكنولوجية، بحيث تصل إلى نسبة تتناسب مع حجم التطلعات المستقبلية (مثلًا، رفع الإنفاق البحثي إلى 2-3% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما يعادل المعايير العالمية).
دعم إنشاء مراكز أبحاث متخصصة في المجالات الاستراتيجية مثل الذكاء الاصطناعي، علوم الفضاء، والتقنيات الحيوية.
جذب واستقطاب العقول المتميزة:
تقديم برامج تحفيزية لجذب العلماء والباحثين من مختلف أنحاء العالم، مع منح مزايا تنافسية تشجع على الاستقرار والإنتاج العلمي.
تفعيل شراكات دولية مع أرقى الجامعات والمؤسسات البحثية.
توطين التكنولوجيا وبناء صناعة محلية قوية:
دعم الصناعات التكنولوجية الناشئة وتمكين الشركات المحلية من قيادة الابتكار.
تشجيع نقل التكنولوجيا من خلال الاستثمار في الشركات الناشئة المتخصصة في المجالات المتقدمة.
تعزيز التعليم والتدريب المتخصص:
تطوير المناهج التعليمية لتواكب التطورات السريعة في مجالات التكنولوجيا المتقدمة.
إنشاء جامعات ومعاهد متخصصة تركز على العلوم التطبيقية والهندسة والابتكار التكنولوجي.
إقامة شراكات استراتيجية دولية:
عقد اتفاقيات تعاون مع القوى العلمية والتكنولوجية الناشئة، مثل الصين والهند وألمانيا، للاستفادة من الخبرات المتنوعة.
دعم برامج الابتعاث والتبادل الأكاديمي مع المؤسسات البحثية المتميزة عالميًا.
الذكاء الاصطناعي: ثورة في بداياتها
يعتبر الذكاء الاصطناعي أحد المحاور الأساسية في الثورة الصناعية الرابعة، وهو ما يزال في مراحله المبكرة. دول الخليج، وخاصة السعودية، لديها فرصة لتكون في طليعة هذا المجال إذا استثمرت بالشكل الصحيح في تطوير الخوارزميات، تعزيز التطبيقات العملية، وإنشاء مراكز بيانات عملاقة.
الخلل في المنظومة العالمية: فرصة جديدة للظهور
العالم يشهد اضطرابات كبيرة في موازين القوى العلمية والتكنولوجية، حيث تواجه الدول التقليدية الرائدة في هذا المجال تحديات متعددة، منها:
الانكماش الاقتصادي الذي يحد من الإنفاق البحثي.
التغيرات السياسية وعدم الاستقرار الداخلي في دول مثل الولايات المتحدة وبريطانيا.
التوجه نحو السياسات الحمائية التي قد تعيق التعاون الدولي في البحث والتطوير.
هذه العوامل قد تفتح المجال أمام قوى جديدة لتولي زمام المبادرة في المشهد العلمي والتكنولوجي العالمي، وهو ما يمنح دول الخليج فرصة ذهبية لاحتلال موقع ريادي.
خاتمة: الفرصة لن تنتظر طويلًا
التاريخ مليء بالأمثلة على دول أهدرت فرصًا مماثلة بسبب التأخر في اتخاذ القرارات المناسبة أو ضعف الإرادة السياسية. ولكي تنجح دول الخليج في اغتنام هذه اللحظة التاريخية، فإن المطلوب ليس مجرد استثمارات مالية، بل استراتيجية متكاملة تقوم على:
الالتزام برؤية طويلة المدى.
الاستثمار في العقول والبنية التحتية.
تعزيز الشراكات مع الجهات الرائدة عالميًا.
بناء بيئة تعليمية وإبداعية جاذبة للمواهب.
إن لم يتم التحرك سريعًا، فقد تتلاشى هذه الفرصة كما حدث مع العديد من الدول التي أضاعت لحظات نادرة للنهضة. أما إذا استثمرت دول الخليج، وعلى رأسها السعودية، في البحث العلمي والتكنولوجيا بالشكل الصحيح، فقد تصبح في غضون عقود قليلة قوة علمية وتقنية عالمية لا يستهان بها.