لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
"القدرة على المجادلة ليست دليلاً على امتلاك الحقيقة، بل شاهدًا على اتساع مساحة الاحتمال الإنساني."
لم يكن الإنسان يوماً صياداً ماهراً للحقائق كما يتخيل نفسه، بل كان صانعاً بارعاً للحجج.
هو يبرع في تزيين الأفكار كما يبرع الرسام في تلوين اللوحة؛ يستطيع أن يجعل من الكذبة تاجاً من ذهب، وأن يُلبس الحقيقة ثياب الشك حتى تبهت ملامحها.
انظر كيف يحاجّ المحامون في قاعات المحاكم: كل طرف منهم يلوح بالأدلة كمن يلوح براية النصر، ولو قلبت الأدلة رأساً على عقب لرأيت أن للخصم أيضاً منطقه، وحججه، وكلماته اللامعة التي تخطف الأبصار. أليس هذا دليلاً على أن البراعة في المجادلة قد تكون غطاءً لفراغ الحقيقة؟
وكذلك الفلاسفة، أولئك العشاق الأبديون للمعنى: تجد أفلاطون يقيم بناءً فلسفيًا مهيبًا على أسس تبدو صلبة كالجبل، ثم يأتي أرسطو، تلميذه النجيب، فيهدم البناء بحجج أخرى لا تقل فخامة.
العقل البشري، يا صاحبي، كمرآة مكسورة؛ كل قطعة منها تعكس صورة للعالم، لكنها صورة ناقصة، مشوهة، متغيرة.
في التاريخ، تُرِكت حروب كبرى ومجازر دموية خلف ستار الحجج المقنعة. ألم تدّعِ الكنيسة يوماً أن مركز الكون هو الأرض بحجج لاهوتية وعلمية؟ ألم يُلاحق غاليليو لأنه تجرأ على مجادلة الفكرة السائدة؟
لو كانت الحجة وحدها دليلاً على الحقيقة، لما ارتكب الإنسان كل هذه الآثام وهو مقتنع أنه على صواب.
الجدل سيف ذو حدين: قد يحرر العقول، وقد يقيدها بسلاسل من وهم. براعتنا في المجادلة تكشف عن مرونة تفكيرنا، لكنها في ذات الوقت تفضح هشاشة يقيننا.
لهذا قيل "لا تعرف الحق بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله."
الحقيقة لا تصرخ وسط الأسواق، ولا تتوسل التصفيق في المناظرات. الحقيقة تمشي حافية في طرقات مهجورة، بينما تتزاحم الحجج المزيفة على أبواب القصور.
الإنسان، في نهاية الأمر، ليس إلا طفلاً يهوى الحكايات. بعضنا يروي حكايات تقود إلى النور، وبعضنا ينسج أساطير تضل السائرين.
إبليس حاجج ربه وأبناء يعقوب حاجوا أباهم لكن هل امتلكوا الحقيقة؟
فالمحاججة شيء وامتلاك الحقيقة شيء آخر ، فلا تغتر ببريق الكلمات، ولا تخدعك زخرفة العبارات؛ ابحث عن الحقيقة كما يبحث العطشان عن النبع: لا يرضى بماءٍ عكر، ولو أغراه لمعانه تحت الشمس.