لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
في السنوات الأخيرة، عاد الحديث بقوة في العديد من البلدان العربية عن "العودة إلى الطبيعة" و"طب الأعشاب" كبديل عن الطب الحديث أو كوسيلة لتخفيف آثاره الجانبية. وبرزت شخصيات إعلامية واجتماعية تسوّق لهذا النوع من الطب بوصفه "آمنًا"، "فعالًا"، و"أصليًا"، في مقابل صورة نمطية عن الأدوية الحديثة باعتبارها "صناعية"، "ضارة"، أو "مرتبطة بالمصالح الربحية للشركات الكبرى". لكن خلف هذه العناوين البراقة، تختبئ إشكاليات عميقة تمس الصحة العامة، والوعي المجتمعي، وسلامة المرضى.
تكاد تنعدم الدراسات السريرية المحكمة في أغلب ممارسات طب الأعشاب في العالم العربي. فلا يُوجد تحديد دقيق للجرعة، ولا تقييم علمي لتركيز المادة الفعالة، ولا متابعة لأعراض جانبية محتملة أو تداخلات دوائية. في البلدان التي تحترم هذا النوع من الطب، مثل ألمانيا أو الصين، هناك معامل ومختبرات، ولجان علمية تشرف على ما يُعطى للمريض، وتحاسب المخالفين وفق قوانين صارمة.
أما في السياق العربي، فالممارسات تعتمد غالبًا على الوصفات الشعبية أو التراكمات التجريبية التي لم تُخضع يومًا لمقارنة علمية موضوعية. والأسوأ، أن هذه الوصفات تنتشر دون رقيب، وغالبًا ما يُروّج لها في الأسواق أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
لا شك أن كثيرًا من ممارسي طب الأعشاب يظهرون لباقة في الحديث، وحسن استقبال للمرضى، وربما يكون لديهم نية صادقة في المساعدة. لكن النية وحدها لا تكفي حين يتعلق الأمر بصحة الإنسان.
الغالبية الساحقة من هؤلاء الممارسين:
لم يتلقوا أي دراسة أكاديمية متخصصة في علم النباتات الطبية أو الصيدلة العشبية من جامعات معترف بها.
لا يخضعون لأي قانون يفرض رخصة مزاولة مهنة، ولا توجد جهة علمية أو طبية تُراقبهم كما هو الحال مع الأطباء الحقيقيين.
يفتقرون إلى المعرفة الصيدلانية الدقيقة، ويتعاملون مع الأعشاب بطريقة عشوائية في الغالب.
هنا تكمن المشكلة الأخطر والأكثر شيوعًا: يقوم كثير من الممارسين بإضافة أدوية كيميائية صناعية إلى خلطاتهم العشبية، دون علم المريض، لزيادة "الفعالية". فقد يُضاف مثلًا:
الكورتيزون لأعشاب يُقال إنها "تُخفف الألم والالتهابات".
السيلدينافيل (الفياجرا) لأعشاب يُروّج لها كمقوٍّ جنسي.
الباراسيتامول أو مسكنات قوية إلى تركيبات تُعطى لمرضى الصداع أو المفاصل.
النتيجة: يشعر المريض بتحسّن لحظي، لكنه لا يعلم أن التحسن سببه مادة دوائية ذات مفعول سريع، وليست الأعشاب بحد ذاتها. وهكذا، تتحول الأعشاب من "علاج طبيعي" إلى خليط مجهول المصدر والتركيبة والتأثير.
على عكس ما يُشاع، فإن الأدوية المصنعة صيدلانياً لا تُنتج اعتباطًا، بل يتم تطويرها بعد أبحاث علمية متقدمة تدرس:
آليات الأمراض المزمنة.
المسارات الجزيئية الدقيقة التي تؤدي إلى ظهور المرض.
أنماط الاستجابة الدوائية بناءً على آلاف التجارب السريرية المتكررة.
أما الأعشاب والخلطات، فهي لا تمر بهذه المراحل، ولا تتبع معايير علمية واضحة في أغلب الأحيان. وحتى لو تم التعامل معها بشروط صارمة كما ورد في هذا المقال، فإنها -في أحسن الأحوال- تُعتبر علاجًا تكميليًا مصاحبًا، وليس أساسيًا منفردًا، ولا يمكن الاعتماد عليها كبديل عن العلاج الطبي الموثوق.
ثقة المريض في المنظومة الصحية تتآكل تدريجيًا.
تفاقم الأمراض المزمنة بسبب الاعتماد على علاج غير مدروس.
تسممات دوائية أو كلوية أو كبدية نتيجة التداخلات غير المعروفة.
تشويه لسمعة الطب البديل الحقيقي، الذي يستحق أن يُطوّر ضمن معايير علمية صارمة.
الاعتراف أن طب الأعشاب ليس شرًا محضًا، لكن لا يجب أن يُمارس إلا من قبل مختصين مؤهلين.
إنشاء مراكز بحثية عربية لدراسة الأعشاب دراسة علمية حديثة.
وضع قوانين رقابية صارمة على من يُمارسون هذا النوع من الطب.
توعية المجتمع بأن ما يُقال في السوق أو عبر وسائل التواصل ليس مرادفًا للعلم ولا للسلامة.
طب الأعشاب ليس عدوًا، لكنه ليس بريئًا بالمطلق. بين من يُسوّق له بجهل أو بخداع، ومن يستخدمه دون علم، تقف الحقيقة عارية: الصحة لا تقبل المجازفة، والعلاج يجب أن يكون علميًا، شفافًا، ومسؤولًا.