لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
إبراهيم الهجري
في العقود الأخيرة، لم تعد السيطرة على مصادر الطاقة الأحفورية وحدها هي ما يرسم ملامح السياسات الدولية، بل برزت فئة جديدة من الموارد تُعرف باسم المعادن الأرضية النادرة، وهي مجموعة معادن بالغة الأهمية تدخل في صميم الصناعات التكنولوجية الحديثة، من الهواتف الذكية إلى السيارات الكهربائية والطائرات العسكرية. سيطرت بعض الدول، وعلى رأسها الصين، على إنتاج هذه المعادن، مما جعلها تمتلك ورقة ضغط قوية تستخدمها بمهارة في الحروب الاقتصادية وفي صياغة ميزان القوى العالمي.
ماهية المعادن النادرة ودورها في الصناعات التكنولوجية
تشمل المعادن النادرة 17 عنصراً، أبرزها: النيوديميوم، الديسبروسيوم، البراسيوديميوم، الإربيوم، وغيرها. رغم اسمها، فإنها ليست بالضرورة نادرة في الطبيعة، بل إنّ استخراجها ومعالجتها اقتصاديًا هو التحدي الأكبر.
تطبيقات رئيسية:
الإلكترونيات: شاشات الهواتف، شرائح الذاكرة، الكاميرات، أنظمة الاتصالات.
السيارات الكهربائية: محركات تعتمد على مغناطيسات نيوديميوم قوية، بطاريات ليثيوم-أيون (تتطلب ليثيوم وكوبالت ونيكل).
الطاقة النظيفة: توربينات الرياح تعتمد على مغناطيسات قوية مصنوعة من معادن نادرة.
الصناعات العسكرية: أنظمة التوجيه الذكي، الرادارات، محركات الطائرات المقاتلة.
السيطرة الصينية على المعادن النادرة
تشير تقارير هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية (USGS) إلى أن الصين تُنتج أكثر من 60% من إجمالي الإنتاج العالمي للمعادن الأرضية النادرة، كما تتحكم في أكثر من 85% من عمليات التكرير والمعالجة.
أسباب الهيمنة الصينية:
احتياطيات ضخمة، خصوصًا في منطقة "بايان أوبو" (Bayan Obo).
استثمارات كبيرة في سلاسل التوريد والمعالجة الكيميائية.
ضعف الاستثمارات الغربية في هذا القطاع منذ تسعينيات القرن العشرين.
لم تكتفِ الصين بالإنتاج فقط، بل تبنت سياسة "التسعير القاتل" عبر خفض الأسعار العالمية حتى أخرجت المنافسين من السوق، قبل أن تفرض لاحقًا قيودًا على الصادرات لتعزيز نفوذها السياسي والاقتصادي.
المعادن النادرة كسلاح في الحروب الاقتصادية
أصبحت المعادن النادرة أداة جيوسياسية فعالة:
في 2010: قامت الصين بتقليص صادرات المعادن النادرة إلى اليابان وسط خلافات بحرية، مما أحدث أزمة صناعية في اليابان وأرغمها على تقديم تنازلات دبلوماسية.
في الحرب التجارية مع الولايات المتحدة (2018-2020): لوّحت الصين مرارًا بفرض قيود على صادراتها إلى الشركات الأمريكية مثل آبل وتسلا، مما دفع واشنطن إلى البحث عن مصادر بديلة.
سياسات الحظر والتقييد: الصين تعلن من حين لآخر عن "ضوابط تصدير" تستهدف تقنيات مرتبطة بالمعادن النادرة، مثل القيود الأخيرة على الجاليوم والغاليوم-أرسينيد (2023)، ردًا على العقوبات الغربية على شركاتها التكنولوجية.
البدائل أمام الولايات المتحدة لمواجهة الحرب الصينية
أمام هذا الواقع، بدأت الولايات المتحدة والدول الغربية في بناء استراتيجيات بديلة لتقليل الاعتماد على الصين، من أبرزها:
تنويع مصادر التوريد: عبر دعم عمليات التعدين الجديدة في دول مثل أستراليا وكندا، والاستثمار في التنقيب عن المعادن في أفريقيا وأمريكا الجنوبية وربما أوكرانيا.
إحياء الإنتاج المحلي: أعادت الولايات المتحدة تشغيل مناجم معادن نادرة مثل "ماونتن باس" في كاليفورنيا، وتوسعت في معالجتها محليًا.
الشراكات الاستراتيجية: أبرمت اتفاقيات مع اليابان، كوريا الجنوبية، وأوروبا لإنشاء سلاسل إمداد مستقلة بعيدة عن النفوذ الصيني.
تطوير تقنيات إعادة التدوير: الاستثمار في تقنيات استخراج المعادن النادرة من النفايات الإلكترونية لتقليل الاعتماد على المصادر الأولية.
ابتكار بدائل تقنية: البحث عن مواد جديدة قد تحل محل بعض المعادن النادرة، خاصة في مجالات البطاريات والمغناطيسات.
هذه الاستراتيجيات لا تزال في طور التنفيذ، لكنها تمثل محاولات جادة لكسر قبضة الصين الحديدية على هذا المورد الحيوي.
التأثير على السياسات الدولية
تحول استراتيجي عالمي:
الولايات المتحدة وأوروبا باتتا تسعيان بشدة لتنويع مصادرهما عبر الاستثمار في المناجم داخل أستراليا وكندا وأفريقيا وربما أوكرانيا.
مشاريع إعادة التدوير للمعادن النادرة بدأت تحظى بأولوية قصوى.
الاتفاقات متعددة الأطراف مثل تحالفات المواد الخام مع اليابان وكوريا الجنوبية أصبحت أدوات رئيسية لضمان أمن سلاسل الإمداد.
بعبارة أخرى: تحولت المعادن النادرة من مجرد موارد صناعية إلى أحد أعمدة الأمن القومي والاقتصاد العالمي.
خاتمة
في عالم تتسارع فيه الثورة التكنولوجية، أصبحت المعادن الأرضية النادرة تشكل الشريان الخفي الذي يغذي الابتكار والصناعة والقوة العسكرية. سيطرة دولة كالصين على هذا القطاع أضافت بعدًا جديدًا للحروب الاقتصادية والدبلوماسية العالمية، مما جعل التنويع في مصادر هذه المعادن والاستثمار في تكنولوجيات المعالجة المستقلة أولوية استراتيجية لا تقبل التأجيل للدول الصناعية الكبرى.
في المستقبل القريب، من المتوقع أن تزداد حدة الصراع على هذه الموارد، فـ"من يملك المعادن النادرة، يملك مفاتيح الغد".