لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
إبراهيم الهجري
تخيّل عالماً لا تصل فيه البضائع كما كانت، ولا تمر فيه السفن بحرية، ولا تعمل الشركات عبر القارات كما اعتدنا. تخيّل أن العالم لم يعُد "قرية كونية"، بل فسيفساء من الجدران الاقتصادية والتحالفات العسكرية المتصارعة.
هل هو خيال مستقبلي؟ أم واقع يقترب بخطى ثابتة؟
أولاً: سلاسل الإمداد.. الوريد المتصلب لعولمة منهكة
منذ جائحة كورونا، ثم الحرب في أوكرانيا، وانفجار النزاعات التجارية بين القوى الكبرى، أدرك العالم هشاشة سلاسل الإمداد. توقُّف جزء منها لا يعني فقط غياب سلع في الأسواق، بل انهيار منظومات إنتاج بأكملها.
الصين، بصفتها "مصنع العالم"، أصبحت عقدة اختناق بدلًا من أن تكون جسرًا عالميًا.
أوروبا والولايات المتحدة بدأت تعيد التفكير في "التصنيع المحلي" و"الاعتماد الذاتي" بعيدا عن البحث عن العمالة الرخيصة في بلدان العالم الثالث.
الدول النامية تواجه كابوسًا مزدوجًا: شح المواد، وارتفاع الأسعار.
النتيجة؟ اقتصاد عالمي يبدأ بالتفكك، وتبرز معه مفاهيم قديمة بلباس جديد: الاكتفاء الذاتي، الحمائية، والتصنيع الوطني.
ثانياً: الكتل الاقتصادية الجديدة... العولمة تتشظى
منظمة التجارة العالمية لم تعد تحكم العالم، بل الإملاءات الجيوسياسية. نشهد اليوم تحولًا نحو كتل اقتصادية كبرى:
الكتلة الغربية: تقودها أمريكا والاتحاد الأوروبي، وتتمسك بالقواعد الليبرالية للتجارة.
الكتلة الأوراسية: بقيادة الصين وروسيا، تسعى لبناء نظام مالي وتجاري بديل.
جنوب العالم: تحالفات مثل "بريكس" تحاول خلق توازن جديد، لا يهيمن عليه الغرب أو الشرق.
لكن ما يميز هذه المرحلة هو غياب التوافق على "قواعد اللعبة". كل كتلة تُعيد تعريف التجارة، والتحالف، وحتى العملة. فهل ينتهي الدولار كعملة مهيمنة؟ أم يتفكك قبلها "النظام الرأسمالي" نفسه؟
ثالثاً: انقسام عسكري عالمي.. هل نحن على أبواب حرب باردة جديدة؟
لم يعد الانقسام العسكري افتراضًا نظريًا، بل واقعًا يتشكل تدريجياً:
حلف "الناتو" يتوسع، لكنه يواجه استنزافًا في موارده وثقة حلفائه.
"الصين وروسيا" تُجريان مناورات عسكرية مشتركة وتحالفات أمنية في آسيا وأفريقيا.
العالم يشهد سباق تسلح تقني: من الأقمار الصناعية إلى الذكاء الاصطناعي، ومن الطائرات المسيرة إلى الأسلحة النووية التكتيكية.
لكن المختلف هذه المرة هو غياب خطوط الفصل الواضحة. فالحرب قد لا تبدأ بدبابة، بل بانهيار شبكة إنترنت، أو توقف سفينة في قناة استراتيجية، أو هجوم سيبراني على محطة طاقة.
رابعًا: الفرص الكامنة في قلب الانقسام العالمي
رغم الصورة القاتمة التي يرسمها الانقسام الجيوسياسي وتفكك سلاسل الإمداد، إلا أن هذا المشهد ليس خاليًا من الفرص، لا سيما للدول التي تستطيع أن تقرأ التحولات بوعي وتتحرك بمرونة. فالتاريخ يُخبرنا أن لحظات الفوضى الكبرى كانت في كثير من الأحيان مهدًا لولادة قوى جديدة.
1. نافذة للاستقلال الاقتصادي:
في عالم تتقوقع فيه القوى الكبرى ضمن كتلها المغلقة، تتاح للدول الصاعدة المستقرة فرصة لتعزيز التصنيع المحلي، والزراعة الذكية، وتقنيات الطاقة البديلة. الاعتماد على الذات لم يعد رفاهية، بل ميزة تنافسية.
من كان يستورد القمح قد يبدأ بإنتاجه، ومن كان يستورد التكنولوجيا قد يبدأ بتوطينها.
2. قوة الموازنة بين المحاور:
الانقسام إلى كتل اقتصادية وعسكرية يُتيح للدول غير المصطفّة أن تلعب دور الوسيط والموازن.
تركيا مثال على دولة تمارس هذا الدور بين الناتو وروسيا.
الهند تستثمر التوازن بين الغرب وبريكس لصالح مصالحها الاستراتيجية.
عالم العربي – إن أحسن التقدير – يستطيع أن يكون لاعبًا لا ملعبًا، من خلال سياسة ذكية متعددة الأقطاب، قائمة على المصالح لا الولاءات.
3. إعادة تعريف القيم الاقتصادية:
في ظل تراجع "العولمة الليبرالية"، تفتح الفرصة لبناء أنظمة اقتصادية أكثر عدالة اجتماعية، وأقرب للواقع المحلي.
الاقتصاد المجتمعي، التحول نحو الطاقة المتجددة، التقنية المفتوحة (Open Source)، كلها أدوات تسمح للدول النامية ببناء اقتصاد لا يتطفل عليه رأس المال العابر للحدود.
4. فرصة للقفز الرقمي:
في وقت تتنافس فيه القوى الكبرى على النفوذ السيبراني والتقني، تُتاح للدول الأصغر فرصة لتبني البنى التحتية الرقمية المستقلة، وتطوير الذكاء الاصطناعي المحلي، وتوظيف الثورة التقنية في التعليم، والصحة، والزراعة، والإدارة.
الانقسام العالمي ليس نهاية التاريخ، بل منعطفه الأخطر. وفي المنعطفات، لا يفوز الأقوى، بل الأذكى.
الفرصة الحقيقية تكمن في أن تتحول الدول الصغيرة إلى صانعة قرار إقليمي، لا متلقية لأوامر دولية.
خاتمة: ماذا بعد؟ وكيف نتهيأ؟
هذه ليست مجرد تحولات سياسية واقتصادية، بل تغيّر جذري في بنية النظام العالمي. وعلى الدول الصغيرة والنامية أن تعيد حساباتها بسرعة:
كيف تضمن أمنها الغذائي؟
كيف تبني صناعاتها؟
كيف تتحرك في عالم لا مكان فيه للحياد الساذج؟
لقد انتهى زمن الركون إلى "النظام العالمي". نحن أمام عالم يتشكل من جديد، ومَن لا يصنع لنفسه موضعًا فيه، سيُجبر على قبول ما يُفرض عليه.