لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
لو أن الزمن استدار بي، وعادت عقارب الأيام إلى الوراء، عشر سنوات، عشرين، ثلاثين… لكنتُ في مواجهةٍ عاتية مع ذاتي القديمة، ذلك الفتى أو الشاب الذي كنتُه ذات يوم، بحماسه العارم، بقناعاته المطلقة، بتلك النظرة المتوهجة التي ترى الأشياء إما بيضاء ناصعة أو سوداء حالكة، بلا ظلال ولا تفاصيل. كنت سأجلس أمامي، أنظر إليّ في ذلك الماضي، وأشعر أنني أمام شخصٍ آخر، لا يعرفني ولا أعرفه، رغم أننا نتقاسم الاسم والملامح وبعض الذكريات.
كم كنتُ عنيدًا، وكم كنتُ أظن أنني أدركُ كل شيء، وأن الحياة كتابٌ مفتوح لا أسرار فيه! لم أكن أرى تعقيدات النفوس، لم أكن أقدّر هشاشة القلوب، كنتُ أظن أن الصواب ساطعٌ كالشمس، وأن الخطأ لا يحتاج إلى كثيرٍ من التبرير. كنتُ أمتلئ يقينًا، لكنه يقينٌ هش، لم يختبره الألم بعد، ولم تصقله التجربة. أما الآن، فكل شيءٍ تغيّر.
لقد عرفتُ الخذلان، ورأيتُ كيف أن أجمل الأحلام قد تتحول إلى سرابٍ كلما اقتربنا منها. قرأتُ كتبًا لم أكن أتصور أنها ستغيرني، وسافرتُ إلى أماكن جعلتني أشعر كم كنتُ صغيرًا في زاويتي الضيقة من العالم. عرفتُ أناسًا كنتُ أظن أنني لن أفهمهم، وصادفتُ قلوبًا لم أتخيل أنها يمكن أن تُحب بهذه الطريقة العميقة.
لو رجعتُ إلى ذلك الماضي، لكنتُ في مواجهةٍ قاسية مع نفسي، ربما كنتُ سأجادلني بعنف، وربما كنتُ سأحاول إقناع ذلك الشاب العنيد أن العالم ليس كما يراه، وأن الإنسان يتغيّر، يتشكّل، يكبر، يفهم… لكنني أعلم أيضًا أنه لن يستمع إليّ، لأنه في ذلك الوقت، كان يظن أنه يعرف كل شيء.
وربما، لو التقيتُ بنسختي القديمة، لما حاولتُ تغييرها كثيرًا، بل كنتُ سأتركها تخطئ، وتسقط، وتنهض، وتتعلم بطريقتها الخاصة. لأنني لو لم أكن ما كنتُه، لما صرتُ ما أنا عليه الآن.
لقد تعززت مفاهيم وتثبتت قناعات، كما تغيرت مفاهيم أخرى وتطورت مدارك، وزادت واتسعت رقعة المدركات، واتضحت واستنارت البصيرة وتعززت الثقة، وكملت المعرفة في جوانب وعطشت أكثر في جوانب، تضخمت بعض الأفكار وذبلت أخرى، وهكذا ينمو ويتطور الفكر بمرور الأيام وكثرة التجارب.
بعض الأصدقاء غبنا عنهم منذ عشرات السنين ولا يزالون يرونا أننا ما زلنا كما تركناهم وذلك لضعف في خيالهم ربما ، لا يدركون كم الأحداث التي يمر بها الإنسان خلال عام واحد فما بالكم بعشرات السنين ، أحداث تقتلع الكثير وتغير الكثير وأنا نفسي لم أعد أعرف نفسي القديمة فالعمر ليس عدد فقط بل هو تجارب منحوته ومواقف مكتوبة وانتصارات وهزائم لا تتركك بل تكتبك وتنضجك وتستهلكك وتغيرك من القمة إلى القاع.