لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
في المنظور السياسي، يُعرَّف الوطن بأنه: الوحدة الجغرافية والسيادية التي يعيش فيها شعب مستقرّ ضمن حدود معترف بها، تحت نظام سياسيّ يمارس السلطة على هذا الإقليم ويمثل إرادة كل أبنائه وفقا للدستور المتفق عليه ويدافع عن سيادته.
فحبّ الوطن ليس شعارًا يُرفع، ولا عاطفةً سطحيةً تُستثار عند الأزمات فحسب، بل هو علاقة معقّدة تجمع بين الانتماء والوعي والمسؤولية. فالوطن ليس مجرد حدودٍ جغرافية أو علمٍ يُرفرف فوق المؤسسات، بل هو منظومة قيم، ومجتمع، وتاريخ مشترك، وإرادة مستمرة في العيش المشترك. من هنا، يصبح حب الوطن اختبارًا دائمًا للإنسان في أخلاقه وتعامله مع الوطن كجغرافيا ومع المواطنين في تلك الجغرافيا ومع ممتلكاتهم وحقوقهم، وموقفه، ووعيه السياسي والاجتماعي تجاههم.
أولًا: حب الوطن كحالة وجدانية
ينشأ حب الوطن في الإنسان منذ الطفولة، مرتبطًا بالأرض التي شهدت خطواته الأولى، وباللغة التي نطق بها، وبالوجوه التي تشكّل ذاكرته الأولى الأهل والمجتمع والمدرسة والعمل. هو انتماء فطريّ يشبه الحنين إلى الأم، غير أن هذا الانتماء الطبيعي لا يكتمل إلا بالوعي. فليس كل من أحب وطنه عاطفيًا قد أدرك معنى هذا الحب، ولا كل من تغنّى بالوطن كان مخلصًا له.
الحب الأعمى للوطن قد يتحوّل إلى تعصّبٍ أعمى، والحب الناقص قد يتحوّل إلى خيانةٍ صامتة. لذلك، فالمعيار ليس شدّة الحب، بل نضجه ووعيه وصدقه.
ثانيًا: الدفاع عن الوطن ضد أعدائه الخارجيين
في الحالة التقليدية، يُختبر حب الوطن في لحظة الخطر الخارجي. عندما تُهدَّد الأرض أو تُنتهك السيادة والكرامة، يصبح الدفاع عنها واجبًا مقدّسًا، لا لأنه أمرٌ وطني فحسب، بل لأنه دفاعٌ عن الكرامة الإنسانية ذاتها.
لكن يجب التفريق بين الدفاع عن الوطن والدفاع عن السلطة. فحين تتماهى السلطة مع الوطن وتحتكر معناه، يصبح الحاكم هو الوطن في نظر البعض، والخروج عليه خيانة. بينما في جوهر الفكرة، الدفاع عن الوطن يعني حماية الأرض والشعب والكرامة والمستقبل، لا حماية الكراسي والامتيازات.
الوعي هنا جوهري، إذ أن الوطنية ليست في حمل السلاح فحسب، بل في معرفة لمن ولماذا نحمل السلاح.
ثالثًا: الدفاع عن الوطن ضد أعدائه الداخليين
العدو الداخلي أخطر من الخارجي، لأنه يلبس ثوب الوطنية ذاتها. الفساد، والاستبداد، وتزييف الوعي، ونهب المال العام، وتدمير مؤسسات الدولة من الداخل، كلّها أشكال من الخيانة المقنّعة.
حب الوطن في هذا السياق لا يعني الصمت، بل المقاومة الأخلاقية والفكرية والسياسية ضد كل من يسرق إرادة الناس أو يعبث بمستقبلهم.
إن من يواجه الظلم بالسكوت لا يُدافع عن وطنه، بل يخذله. ومن يهادن الفساد باسم "الاستقرار" يُسهم في انهيار ما يدّعي الحفاظ عليه.
الدفاع عن الوطن هنا يعني:
مقاومة الظلم لا ممالأته.
نصرة الحق لا المصلحة.
إصلاح النظام السياسي لا تجميله.
حماية القانون لا الالتفاف عليه.
رابعًا: حب الوطن في زمن الفتنة والانقسام
في حالات الصراع الأهلي أو الطائفي أو الحزبي، يُختبر حب الوطن بأصعب أشكاله. فحين يتنازع أبناؤه على الولاء، يصبح الحفاظ على وحدة الوطن عملًا بطوليًا.
حب الوطن هنا لا يكون بالانحياز لفئة ضد أخرى، بل بالانحياز للمبدأ ضد العصبية، وللمواطنة ضد الانقسام.
إن أخطر ما يواجه الأوطان اليوم هو تفكّك المعنى الجمعي: حين يتحوّل الوطن إلى غنيمة، أو هوية جزئية، أو ذاكرة انتقائية.
من يحب وطنه حقًا لا ينجرّ إلى خطاب الكراهية، بل يسعى إلى بناء مساحة مشتركة تحفظ كرامة الجميع، لأن العدالة لا تُجزّأ.
خامسًا: حب الوطن كفعل إصلاحي مستمر
الوطن لا يُدافع عنه مرةً واحدة. الدفاع الحقيقي هو فعل يوميّ: في الصدق بالعمل، والنزاهة في الوظيفة، واحترام القانون، وتربية الأبناء على الحرية لا الخوف وعلى كل القيم النبيلة.
حب الوطن أن تُصلح ما تستطيع إصلاحه، وأن ترفض أن تكون جزءًا من منظومة الخراب ولو بالصمت.
كما أن الدفاع بالقول والموقف هو أحد أنبل صور الدفاع. الكلمة الصادقة التي تفضح الظلم وتوقظ الضمير هي جنديّ في معركة الوعي. فالإصلاح ليس حكرًا على الساسة، بل مسؤولية كل فرد يرى الخلل ويسعى لتقويمه.
سادسًا: العلاقة بين الوطن والمواطن
لا وطن بلا مواطن حرّ، ولا مواطن حرّ في وطن مأسور. فالعلاقة بينهما علاقة تكافل لا تبعية مطلقة.
على الدولة أن تضمن العدالة والكرامة لكل المواطنين، وعلى المواطن أن يحمي النظام العام بالقانون لا بالعنف إلا في حالة الدفاع المعروف تبعا لما يحدده الدستور المتفق عليه.
حين يشعر الإنسان أن وطنه يعامله بإنصاف، يزداد الحب له تلقائيّا يدفعه للعطاء. أما حين يُسلب حقّه وتداس كرامته ويكتم صوته، فإن حبّه يتحوّل إلى ألمٍ صامت، وجرح غائر، أو غضبٍ مشروع لكنه لا يبرر الخيانة للوطن بمعناها المعروف.
وختاما، حب الوطن ليس قصيدة تُقال في المناسبات، بل سلوكٌ يوميّ، وموقفٌ أخلاقيّ، وممارسة عقلانية.
هو أن تُحافظ على جمال الأرض وكرامة الإنسان، وأن ترفض الظلم ولو كان باسم الوطن نفسه.
هو أن تُدافع عن الحقيقة في وجه التزوير، عن العدالة في وجه الامتياز، وعن الضمير في وجه الخوف.
فمن أحب وطنه حقًا، دافع عنه ضد أعدائه في الخارج والداخل.. وفي داخله هو أيضًا، لأن أخطر ما يهدد الأوطان هو موت الضمير في قلوب أبنائها.
11.06.2025