لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
حضرت خلال الساعة الماضية واحدة من أكثر المحاضرات العلمية إثارة للدهشة والإلهام، ألقتها العالمة الفيزيائية الفرنسية السويدية آن لويلي (Anne L’Huillier)،(مواليد 1958 في باريس) ، الحائزة على جائزة نوبل في الفيزياء لعام 2023، حول فيزياء الأتوثانية (Attosecond Physics)، وهو المجال الذي فتح نافذة جديدة على عالم الإلكترونات داخل الذرات.
كانت المحاضرة بمثابة رحلة فكرية إلى أعماق الزمن نفسه، زمن لا يُقاس بالثواني أو الفمتوثانية، بل بجزء من المليار من المليار من الثانية (10⁻¹⁸ ثانية)، حيث تبدأ الطبيعة بالكشف عن أسرارها الحقيقية.
الطريقة التجريبية (RABBIT) وبداية ثورة القياس الزمني
عرضت الدكتورة لُوييه بأسلوب واضح منهجية RABBIT (Reconstruction of Attosecond Beating By Interference of Two-Photon Transitions)، وهي تقنية تعتمد على تداخل عمليتين فوتونيتين لقياس تأخيرات زمنية متناهية الصغر في انبعاث الإلكترونات.
من خلال مزيج من ليزر قوي وتوافقيات عليا (High-order Harmonics)، يتم توليد نبضات ضوئية قصيرة للغاية تُستخدم كساعة ذرية فائقة الدقة لتتبع حركة الإلكترونات لحظة خروجها من الذرة.
وقد ربطت العالمة بين هذا الإنجاز التجريبي وبين الأسس النظرية التي وضعها كلٌّ من هيرتز (1887) وأينشتاين (1905) عند اكتشاف التأثير الكهروضوئي، مؤكدة أن ما كان في بداية القرن الماضي ظاهرة غامضة أصبح اليوم أداة لقياس الزمن على مستوى الإلكترون نفسه.
ديناميات الأتوثانية والقياس الزمني الكمي
تطرقت المحاضرة إلى نتائج أبحاث رائدة مثل أعمال Klünder et al., Phys. Rev. Lett. 106 (2011) التي طورت قياسات التأخيرات الزمنية بين الإلكترونات المختلفة أثناء التأين.
وقد فسّرت لُوييه العلاقة بين الطور (Phase) والزمن من خلال معادلة Wigner delay التي تصف الفرق الزمني الناجم عن تفاعل الإلكترون مع الحقل الكهرومغناطيسي
هذه المعادلة تمثل أساس “الكرونومتر الكمي” الذي يمكّننا من قياس الفارق الزمني في انبعاث الإلكترونات بمستوى دقة مذهل يصل إلى عشرات الأتوثواني فقط.
تجارب التأين في الزينون والهيليوم
من أكثر الأجزاء إثارة كانت الدراسات التي عرضتها لُوييه حول تأين الزينون (Xe) في غلافه الداخلي 4d، حيث كشفت القياسات عن تأخيرات زمنية تتراوح بين 50 و200 أتوثانية بسبب التآثر بين اللف والعزم المداري (Spin–Orbit interaction) ووجود الرنين ثنائي القطب العملاق (Giant Dipole Resonance).
ثم انتقلت إلى تجربة تأين الهيليوم (He)، لتوضّح كيف يؤثر التداخل الكمي (Quantum interference) بين المسارات الفوتونية على طور الإلكترون، وكيف يمكن رسم خريطة زمنية لمغادرة الإلكترونات من الذرة باستخدام توزيع ويغنر (Wigner distribution)، الذي يجمع بين الطاقة والزمن في تمثيل بصري مذهل.
العلم بين الجهد الإنساني والتضحية
لم تكن هذه المحاضرة مجرد استعراض لنتائج فيزيائية، بل شهادة على مقدار الجهد والتفاني الذي يبذله العلماء من أجل توسيع حدود المعرفة.
ذكّرتني كلماتها بنوع خاص من البطولة.. بطولات لا تُخاض في ساحات الحرب، بل في مختبرات الليزر، بين أنابيب الغاز والمرايا الدقيقة، حيث يقضي الباحثون سنوات من العمل المضني فقط لالتقاط نبضة ضوئية لا تدوم أكثر من 10⁻¹⁸ ثانية. مضحين براحتهم والمكوث مع أطفالهم والاستمتاع بالشواطئ والملاهي ومتابعة قفزات الأسهم المالية، عمر كامل في المختبرات والكتب والأوراق ثم يأتي شخص متراخي على كرسي وثير يلعن ما يقدموه ويستحقر تلك الجهود وكأنه قد قدم للبشرية الخلاص النهائي من مشاكلها، قليلا من الإنصاف يا قوم.
إن ما تبذله هذه العقول من جهدٍ وصبرٍ وتفانٍ في البحث لا يهدف إلى المجد الشخصي، بل إلى خدمة العلم والإنسانية. فبفضل هذه الأبحاث، يمكننا اليوم دراسة التفاعلات الإلكترونية في المواد، وفهم الكيمياء الأتوثانية، وابتكار تقنيات جديدة في الإلكترونيات والفوتونيات والأدوية.
الآفاق القادمة
اختتمت لُوييه محاضرتها بعبارة تلخّص روح هذا العصر العلمي:
"نحن لا نقيس الإلكترونات فحسب.. نحن نرى الزمن وهو ينبض داخل المادة."
ثم أشارت إلى أن مستقبل فيزياء الأتوثانية يتجه نحو:
الكيمياء الأتوثانية (Attosecond Chemistry) لفهم التفاعلات الكيميائية في لحظتها الأولى.
ديناميات الكم الفائقة السرعة (Ultrafast Quantum Dynamics).
وتوسيع نطاق التجارب إلى مصادر FEL في مدى الأشعة السينية (X-ray)، بطاقة نبضية أعلى ودقة زمنية أكبر.
ختاما، خرجتُ من هذه المحاضرة بإحساس عميق بأننا نعيش في زمن يشهد ثورة صامتة، ثورة تقيس ما لم يكن يُقاس، وتفتح نوافذ جديدة على ما وراء الإدراك البشري.
العلماء الذين يسهرون لالتقاط هذه اللحظات الأتوثانية لا يكتشفون فقط أسرار الإلكترون، بل يعيدون تعريف معنى الزمن، والمادة، والحياة نفسها.
10.11.2025