لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
عشر سنوات من الصراع جعلت اليمن يعيش أسوأ أزماته؛ بلد كان يومًا ما موحّدًا اجتماعياً رغم تنوعه القبلي والطائفي أو المذهبي والعرقي، انقسم بفعل خطاب التحريض والانقسام، وتعمّقت الفجوة بين أبنائه حتى صار الشتات عنوانًا للوضع الاجتماعي والسياسي.
لكن هل يمكن رأب هذا الصدع؟ وكيف يمكن لكل طرف - من الدولة إلى الفرد - أن يساهم في بناء مصالحة وطنية حقيقية؟
العوامل التي ساهمت في التشردم خلال العقد الأخير
الخطاب السياسي المحرّض
تنافس القوى السياسية حول السلطة منذ 2011 تحوّل إلى حرب إعلامية غذت الانقسام، مستخدمة لغة التخوين والمناطقية والعنصرية وغيرها.
الأزمة الاقتصادية
انهارت العملة وارتفعت نسب الفقر إلى أكثر من 80% من السكان بحسب تقارير الأمم المتحدة (UN OCHA 2023)، مما خلق تربة خصبة لتجنيد الشباب واستغلالهم سياسيًا واعلاميا
الطائفية /المذهبية/المناطقية
شهد اليمن تصاعدًا في النزعات المذهبية، رغم أن التعايش بين الزيدية والشافعية تاريخيًا كان سلميًا باستثناء حالات الصراع السلطوي، لكن الحرب حوّلت هذا التنوع إلى أداة صراع. وبرز خطاب مناطقي وعنصري قبيح أدى إلى جروح غائرة في النفوس.
غياب الخطاب الوطني في الإعلام
وسائل الإعلام المحلية والحزبية تبنّت خطابًا تحريضيًا أسهم في تقسيم اليمنيين نفسيًا، بدلًا من توحيدهم حول قضاياهم المشتركة.
ضعف التعليم وانتشار الجهل
ساهم تدمير المدارس وغياب المناهج الوطنية الجامعة في تجذير مفاهيم خاطئة، بدلًا من غرس قيم المواطنة.
دور الخطاب والإعلام في توسيع الفجوة أو تضييقها
الإعلام إما جسر يوحّد أو سلاح يفرّق؛ استخدامه لبث رسائل الأمل، قصص التضامن بين اليمنيين، والتذكير بتاريخ تعايشهم السلمي يمكن أن يعيد الثقة بينهم.
تصحيح الخطاب السياسي والديني والإعلامي ضرورة مطلقة، فاللغة التي تصف الآخر بـ"العدو" أو "الكافر" أو "المنافق" أو "غير يمني" لن تنتج سوى مزيد من الكراهية.
نماذج ملهمة: رواندا وجنوب إفريقيا
رواندا (بعد الإبادة 1994)
شهدت إبادة جماعية أودت بحياة نحو 800 ألف شخص. لكن حكومة ما بعد الحرب أطلقت مشروع "المصالحة الوطنية" عبر لجان "غاكاكا" المحلية التي جمعت القاتل والضحية في مكان واحد للاعتراف والمسامحة. كما أقرّت يومًا وطنيًا للتذكير بالمأساة ومنع تكرارها.
جنوب إفريقيا (بعد الفصل العنصري)
أسس نيلسون مانديلا لجنة الحقيقة والمصالحة بقيادة ديزموند توتو، فأتاحت للضحايا والجناة سرد قصصهم علنًا؛ هذا الخطاب الصادق أزال رواسب الكراهية وفتح الباب أمام بناء دولة موحّدة.
الحلول العملية لتوحيد المجتمع اليمني سواء الآن أو بالتزامن مع الحلول السياسية
على مستوى الدولة
سن قوانين تجرّم خطاب الكراهية والتحريض والممارسات الإقصائية.
تبنّي خطاب رسمي جامع يعترف بكل اليمنيين كمواطنين متساوين وتعزيز ذلك بالممارسات الصادقة والشفافة.
على مستوى المجتمع
إطلاق مبادرات محلية في القرى والمدن لإحياء مفاهيم التعايش، كتكوين مجالس مصالحة مجتمعية على غرار "غاكاكا" الرواندية ولكن بصيغة يمنية.
على مستوى الفرد
التوقف عن تبني لغة الكراهية والاستعلائية أو التخوينية في الحياة اليومية ووسائل التواصل الاجتماعي.
تبني لغة جامعة لا تستثني أحد.
السعي لخلق صداقات مع أشخاص من مختلف المناطق والمذاهب.
على مستوى الأحزاب والجماعات
توقيع ميثاق شرف سياسي وإعلامي يلتزم بعدم بث خطاب تحريضي.
تدريب كوادرهم على مفاهيم الحوار وقبول الآخر.
على مستوى الطوائف/المذاهب
تشجيع علماء الدين والمثقفين على إنتاج خطب ومحتوى يكرس قيم التسامح ونبذ التعصب.
خاتمة
لقد أثبتت رواندا وجنوب إفريقيا أن المصالحة تبدأ من خطاب صادق وشجاع يواجه الماضي ولا يهرب منه. في اليمن، يمكن للكلمة الطيبة أن تصنع بداية جديدة، شرط أن يساهم الجميع في تغيير الخطاب من التحريض إلى المصالحة، ومن الانقسام إلى الوحدة.
والله من وراء القصد