لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
تخيل أنك تستيقظ صباحًا لترى 16 شروقًا للشمس قبل أن ينتهي يومك، وتتناول طعامك بينما تطفو حولك قطرات الماء كاللآلئ في الهواء، وتنظر من نافذة بانورامية لترى الأرض بكامل هيبتها معلقة في سواد الفضاء. هذه ليست مشاهد من فيلم خيال علمي، بل هي الحياة اليومية على متن المحطة الفضائية الدولية، أعظم مشروع هندسي وعلمي أنجزه الإنسان في المدار. في هذا المقال، سنأخذك في رحلة بين مكوناتها، وأسرار سرعتها الهائلة، وكيف بُنيت ولماذا، وكيف يعيش الرواد فيها ويؤدون مهامهم، وحتى كيف يتعاون العالم في الفضاء رغم صراعاته على الأرض. ستكتشف كيف يُدار هذا المختبر العائم، وما الذي يقدمه للبشرية، وما الذي يجعل النظر إلى الليل والنهار من هناك تجربة لا تشبه أي شيء آخر.
1. النشأة والتاريخ
بدأت قصة المحطة الفضائية الدولية في نوفمبر 1998 مع إطلاق أول وحدة تُسمى "زاريا"، أعقبها بعد أسبوعين تركيب وحدة "يونيتي" بواسطة مكوك الفضاء الأمريكي. وفي نوفمبر 2000 بدأ الطاقم الأول إقامته الطويلة على متنها، لتصبح منذ ذلك الحين موطنًا دائمًا للبشر في الفضاء.
2. المكونات والهيكل
تنقسم المحطة إلى قسمين رئيسيين: الجزء الروسي، والجزء الذي تديره الولايات المتحدة وشركاؤها من أوروبا واليابان وكندا. يمتد هيكلها الخارجي على شكل قضبان ضخمة تحمل الألواح الشمسية وأنظمة التبريد، بينما تحتوي الوحدات الداخلية على مختبرات، مناطق معيشة، ووحدات تحكم. ومن أبرز هذه الوحدات: "زاريا"، "يونيتي"، "زفيزدا"، المختبر الأوروبي "كولومبوس"، المختبر الياباني "كيبو"، ووحدة "كوبولا" المزودة بنافذة بانورامية لمراقبة الأرض والفضاء.
3. السرعة والمدار
تدور المحطة على ارتفاع يقارب 400 كيلومتر فوق سطح الأرض، بسرعة مذهلة تبلغ نحو 27,600 كيلومتر في الساعة، لتكمل دورة كاملة حول الكوكب في نحو 93 دقيقة، ما يمنح روادها فرصة مشاهدة حوالي 16 شروقًا وغروبًا للشمس كل يوم. يميل مدارها بزاوية 51.6 درجة، ما يتيح لها المرور فوق معظم المناطق المأهولة على الأرض.
4. الغرض والوظيفة
المحطة تُعد مختبرًا علميًا متعدد التخصصات، يتيح إجراء أبحاث في الفلك، الفيزياء، علوم الحياة، والطب في بيئة الجاذبية الصغرى. كما توفر منصة لتجارب ضرورية لرحلات الفضاء المستقبلية إلى القمر والمريخ، وتُسهم في أبحاث طبية وتقنية ذات تطبيقات مباشرة على الأرض، فضلًا عن دورها في نشر المعرفة والتثقيف العلمي عالميًا.
5. الإطلاق وبناء المحطة
استغرق تجميع المحطة أكثر من عشر سنوات، عبر سلسلة من المهام التي نفذتها مركبات فضائية روسية ومكوكات الفضاء الأمريكية. اعتمد البناء على الالتحام التدريجي للوحدات، مع الاستعانة بذراع روبوتية كندية ضخمة لتثبيت المكونات وإجراء أعمال الصيانة.
6. اختيار المدار وصيانته
اختير مدار المحطة ليوازن بين سهولة الوصول إليها من مواقع الإطلاق المختلفة وتغطية أكبر مساحة من سطح الأرض. وبسبب وجود بقايا من الغلاف الجوي على ارتفاعها، تُجرى عمليات رفع للمدار بشكل دوري باستخدام محركات الوحدات الروسية أو مركبات الإمداد للحفاظ على ارتفاعها.
7. الوصول إليها وتبديل الطواقم
ترسل الطواقم إلى المحطة كل نحو ستة أشهر باستخدام مركبات مأهولة مثل "سويوز" الروسية أو "دراجون" الأمريكية. تقوم المركبات بمطابقة المدار والسرعة مع المحطة، ثم تلتحم بها أوتوماتيكيًا أو يدويًا.
8. الإمداد، النفايات، والعودة
تصل المؤن والتجهيزات عبر مركبات شحن غير مأهولة من عدة وكالات فضاء. بعد تفريغ الحمولة، تُحمّل النفايات داخل هذه المركبات لتُحرق عند دخولها الغلاف الجوي. أما النفايات السائلة فيُعاد تدوير معظمها داخل المحطة لتوفير المياه. عند عودة الرواد، يستخدمون المركبات المأهولة نفسها التي وصلت بهم أو مركبات أخرى جُهزت لذلك.
9. الحجم والكتلة
تبلغ الكتلة الإجمالية للمحطة حوالي 410 أطنان، وحجمها الداخلي القابل للضغط يقارب 1000 متر مكعب، أي ما يعادل مساحة طائرة ركاب كبيرة. يمتد هيكلها من طرف إلى طرف لمسافة تتجاوز 100 متر.
10. الميزانية والتكاليف
بلغت تكلفة بناء المحطة حوالي 150 مليار دولار، وهي نتيجة مساهمات مالية وتقنية من عدة دول. أما تكلفة تشغيلها السنوية فتصل إلى نحو 3 مليارات دولار، تتوزع على أعمال الصيانة، الإمداد، وتشغيل الأنظمة.
11. الجاذبية أو انعدامها
على الرغم من أن الجاذبية على ارتفاع 400 كيلومتر ما تزال قريبة من قيمتها على سطح الأرض، فإن المحطة وروادها في حالة سقوط حر دائم حول الكوكب، مما يخلق بيئة الجاذبية الصغرى التي تتيح إجراء التجارب الفريدة في هذا المجال.
12. كيف يتم الالتحام؟
عملية التحام المركبات بالمحطة الفضائية الدولية تتم بدقة متناهية، وتشبه إلى حد ما محاولة إدخال مفتاح في قفل صغير أثناء التحرك بسرعة هائلة — لكن في الفضاء. تبدأ العملية بمطابقة مدار وسرعة المركبة مع المحطة باستخدام سلسلة من المناورات المحسوبة بدقة. بعد ذلك، تقترب المركبة ببطء شديد حتى تصل إلى بضعة أمتار من نقطة الالتحام المحددة، والتي تكون مزودة بأنظمة توجيه وإرشاد. تعتمد بعض المركبات، مثل "سويوز" و"بروغرس"، على نظام التحام أوتوماتيكي، بينما تستخدم مركبات أخرى مثل "دراجون" و"سيغنوس" أسلوب الاقتراب التدريجي ثم يتم الإمساك بها بواسطة الذراع الروبوتية للمحطة وتثبيتها في المنفذ المناسب. خلال هذه العملية، يتم مراقبة كل خطوة من قِبل رواد الفضاء على متن المحطة وفريق التحكم الأرضي لضمان السلامة التامة.
13. كثافة الهواء في المدار والتحديات المرتبطة بها
على ارتفاع يقارب 400 كيلومتر، حيث تدور المحطة الفضائية الدولية، تكون كثافة الهواء أقل بمئات المليارات من كثافتها عند سطح الأرض، وهو ما يجعل الوسط المحيط أشبه بفراغ شبه تام. ورغم ضآلة هذه الكثافة، فإن الجزيئات القليلة الموجودة تسبب مقاومة طفيفة تؤدي إلى تباطؤ تدريجي في سرعة المحطة وانخفاض مدارها بمرور الوقت. تتأثر هذه الكثافة بعوامل عدة، منها النشاط الشمسي الذي يزيد من تمدد الغلاف الجوي العلوي، ما يرفع كثافة الجزيئات في المدار، إضافة إلى تغيرات الضغط ودرجة الحرارة في طبقة الثرموسفير. لتفادي أثر هذه المقاومة، تُجرى عمليات رفع للمدار بشكل دوري باستخدام محركات الوحدات الروسية أو مركبات الإمداد، مما يعيد المحطة إلى ارتفاعها الأمثل ويحافظ على استقرار مسارها لفترات طويلة.
14. فوائد المحطة للبشرية
المحطة الفضائية الدولية تمثل مختبرًا علميًا فريدًا لا يمكن تكراره على الأرض، إذ تتيح بيئة الجاذبية الصغرى إجراء تجارب لا يمكن تنفيذها في أي مكان آخر. هذه الأبحاث ساهمت في تطوير تقنيات طبية مثل تحسين علاجات هشاشة العظام وفهم آليات نمو الخلايا والأنسجة، كما ساعدت في دراسة تأثيرات الإشعاع والفراغ على جسم الإنسان تمهيدًا للرحلات البعيدة مثل السفر إلى المريخ. في مجال التكنولوجيا، أدت التجارب إلى تحسين أنظمة تنقية المياه وإعادة التدوير، وهي تقنيات باتت تُستخدم في مناطق تعاني من ندرة المياه. كما توفر المحطة منصة لرصد الأرض من الفضاء، ما يساعد على متابعة التغيرات المناخية والكوارث الطبيعية، ودعم جهود الإغاثة والتخطيط البيئي. إضافة إلى ذلك، فهي رمز للتعاون الدولي، حيث تعمل دول مختلفة معًا في مشروع علمي واحد، مما يعزز الدبلوماسية العلمية ويُلهم الأجيال الجديدة لاستكشاف الفضاء.
15. التعاون الدولي رغم الخلافات الأرضية
المحطة الفضائية الدولية تمثل نموذجًا فريدًا للتعاون بين دول قد تكون على خلاف أو حتى في حالة عداء سياسي على الأرض، مثل الولايات المتحدة وروسيا. فعلى الرغم من التوترات الجيوسياسية والحروب الباردة الجديدة، يواصل رواد الفضاء والمهندسون والعلماء من الجانبين العمل معًا يوميًا في بيئة تتطلب الثقة المتبادلة والدقة المطلقة. هذا التعاون يشمل تبادل البيانات، وتنسيق عمليات الإطلاق، وتكامل الأنظمة التقنية، حيث يعتمد الجزء الأمريكي على قدرات الدفع الروسية للحفاظ على مدار المحطة، بينما تستفيد روسيا من الطاقة الكهربائية والإمدادات التي توفرها الوحدات الأمريكية والأوروبية. هذا الترابط يجعل نجاح المشروع مرهونًا بالتعاون، ويقدم مثالًا على أن الفضاء يمكن أن يكون ساحة لتجاوز الانقسامات الأرضية وبناء جسور جديدة بين الشعوب.
16. الحياة اليومية في بيئة انعدام الجاذبية
العيش في المحطة الفضائية الدولية يفرض على الرواد التكيف مع بيئة مختلفة تمامًا عن الأرض. ففي حالة انعدام الجاذبية، لا يمكن للطعام أو السوائل أن تبقى في مكانها، لذا تُقدم الوجبات في عبوات مغلقة أو أكياس خاصة، ويستخدم الرواد أدوات تثبيت مغناطيسية أو لاصقة لمنع تطاير الطعام. أما النوم، فيكون داخل أكياس نوم مثبتة على جدران المقصورات، حيث يطفو الرائد في وضع ثابت دون الحاجة لسرير تقليدي. شرب الماء يتم عبر أنابيب متصلة بأكياس محكمة الغلق لتجنب تشكّل قطرات عائمة قد تتلف الأجهزة. دخول الحمام يعتمد على نظام شفط بالهواء بدلاً من تدفق المياه، حيث تُجمع الفضلات الصلبة في حاويات خاصة، بينما الفضلات السائلة تُعالج وتُعاد إلى نظام إعادة التدوير لتتحول إلى مياه صالحة للشرب. وبسبب استحالة الاستحمام بالماء الجاري، يستخدم الرواد مناشف رطبة وشامبو جاف للحفاظ على النظافة. هذه البيئة تؤثر على الجسم بمرور الوقت، حيث تضعف العضلات والعظام لغياب الجاذبية، مما يستلزم ممارسة تمارين رياضية يومية باستخدام أجهزة مخصصة للحفاظ على اللياقة البدنية.
17. مشهد الليل والنهار والشفق القطبي من المدار
على متن المحطة الفضائية الدولية، يعيش الرواد تجربة فريدة حيث يشهدون حوالي 16 شروقًا و16 غروبًا للشمس في اليوم الواحد، إذ تكمل المحطة دورة حول الأرض كل نحو 93 دقيقة. عندما تكون في مواجهة الشمس، يغمر الضوء الأبيض الساطع كل شيء، وتظهر الأرض أسفلهم ككرة ملونة نابضة بالحياة، يتدرج لونها من الأزرق العميق للمحيطات إلى الأخضر والبني لليابسة، مع بياض السحب المشرق. أما حين تدخل المحطة في ظل الأرض، فيتحول المشهد إلى عرض كوني مهيب: أضواء المدن تتلألأ على السطح المظلم، وخط أزرق رفيع يحدد حافة الكوكب، والنجوم تظهر ثابتة ومتألقة بوضوح غير مألوف. وفي بعض الليالي، تُزين المشهد ظاهرة الشفق القطبي، فتبدو كستائر أو أمواج ضوئية ترقص فوق الغلاف الجوي، بألوان خضراء وزمردية وأرجوانية وأحيانًا زرقاء، تمتد على آلاف الكيلومترات حول القطبين. هذه الظاهرة، الناتجة عن تفاعل الجسيمات الشمسية مع الغلاف الجوي العلوي، تجعل الرواد يشعرون وكأنهم يشاهدون الأرض وهي ترتدي رداءً مضيئًا ينبض مع أنفاس الشمس.