لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
كل ما نراه في هذا العالم، كل مشهد نُبصره، وكل لون يُبهج أعيننا.. يعود في جوهره إلى الضوء. فبدونه لن تُرى الأشياء، ولن تعمل العين، ولن يكون للكون معناه البصري الذي اعتدناه. ورغم بداهة وجوده، فإن الضوء كان لغزًا غامضًا لقرون طويلة، يحار فيه العلماء والفلاسفة على حدّ سواء.
حتى جاء الحسن بن الهيثم في القرن العاشر الميلادي، فوضع الأساس التجريبي والمنهجي لدراسة الضوء، بعد أن كانت تُناقش ضمن التأملات الفلسفية. ففي كتابه الشهير المناظر، وضع نظريات دقيقة عن انكسار الضوء، وانعكاسه، وإدراك الرؤية، ورفض فكرة أن العين ترسل "أشعة" لترى، بل أثبت أن الضوء ينتقل من الجسم إلى العين، لا العكس. ومن هنا بدأت رحلة علمية استثنائية لفهم هذا الكائن الخفي: الضوء.
بعد نحو سبعة قرون، ظهر إسحاق نيوتن، أعظم علماء الفيزياء الكلاسيكية، وقال إن الضوء يتكوّن من جسيمات صغيرة (كور) تنطلق بسرعة هائلة من الأجسام المضيئة. ولما كان نيوتن شخصية علمية مرموقة، طغى رأيه على الساحة العلمية، رغم أن العالم الهولندي كريستيان هيجنز اقترح في نفس الفترة أن الضوء عبارة عن موجات، تنتشر في وسط غير مرئي يسمّى "الأثير".
لكن لم يكن ذلك الصراع سوى مقدمة لكشف أعمق.
مرّ أكثر من 150 عامًا حتى جاء علماء مثل توماس يونغ وألبيرت أينشتاين وماكس بلانك ليكشفوا لنا أن الحقيقة أكثر تعقيدًا.. وأن الضوء يمتلك طبيعة مزدوجة:
فهو موجة حين يتداخل وينعكس وينكسر وينتشر،
وجسيم حين يتفاعل مع المادة على شكل حُزم طاقية تسمى فوتونات.
وهكذا، أصبحنا نعلم اليوم أن الضوء ليس شيئًا واحدًا، بل ظاهرة تُظهر سلوكًا مختلفًا حسب السياق الذي نرصدها فيه. إنها ثنائية الجسيم-الموجة التي حيّرت حتى أينشتاين نفسه.
ما نعرفه اليوم عن الضوء هو أنه جزء من ظاهرة أعظم تُدعى الموجات الكهرومغناطيسية.
هذه الموجات ليست بحاجة إلى وسط مادي (مثل الهواء أو الماء) لتنتقل، بل تسير في الفراغ بسرعة هائلة (حوالي 300,000 كيلومتر في الثانية). وتتكون من:
مجال كهربائي يتذبذب صعودًا وهبوطًا،
ومجال مغناطيسي يتذبذب يمينًا ويسارًا،
وكلاهما متعامد على بعضهما البعض، ويتقدمان سويًا إلى الأمام.
لنتخيل هذا التكوين:
إذا كانت الموجة تسير على محور x، فإن:
المجال الكهربائي يتذبذب على محور y،
والمجال المغناطيسي يتذبذب على محور z،
وهكذا يتشكل ما يشبه رقصة متناغمة بين الكهرباء والمغناطيس، تُنتج موجة ضوئية أو راديوية أو غيرها.
في منتصف القرن التاسع عشر، جاء العالم الاسكتلندي جيمس كليرك ماكسويل، فأنشأ ثورة علمية عبر أربع معادلات، تُعد من أعظم ما كُتب في تاريخ الفيزياء. هذه المعادلات:
تصف كيف تولد الشحنات الكهربائية مجالات كهربائية.
وتُظهر كيف تُنتج التيارات والمجالات المتغيرة حقولاً مغناطيسية.
وتبيّن أن المجالات الكهربائية والمغناطيسية يمكن أن تُنشئ بعضها بعضًا.
وتُثبت أن هذه الحقول المتغيرة يمكن أن تنتشر في الفضاء على شكل موجات كهرومغناطيسية.
ومن خلال هذه المعادلات، تبيّن أن الضوء ما هو إلا شكل من أشكال الموجات الكهرومغناطيسية.
ما الضوء الذي نراه بأعيننا إلا جزء صغير جدًا من طيف كهرومغناطيسي واسع، يمتد من:
موجات الراديو (طويلة جدًا وأقل طاقة)،
إلى الأشعة تحت الحمراء،
ثم الضوء المرئي،
وبعده الأشعة فوق البنفسجية،
ثم أشعة X،
وصولًا إلى أشعة جاما (قصيرة جدًا وأعلى طاقة).
كلها موجات من نفس العائلة، ولكن تختلف في التردد والطول الموجي والطاقة.
وهكذا، بعدما كان الضوء لغزًا، أصبح اليوم أحد أعمدة الفيزياء الحديثة. ووراء هذه القصة الممتدة ألف عام، يقف علماء جادّون، وخيال علمي، وتجارب دقيقة، ورياضيات جميلة.
ولعل أجمل ما في الأمر.. أن الضوء الذي يُنير حياتنا، هو في ذاته رسالة من الكون، تقول لنا:
"كل شيءٍ عميق.. كان يومًا بسيطًا في نظر من لم يسأل."