لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
في السنوات الأخيرة، تصاعدت في اليمن وتيرة الجرائم البشعة، من قتل وتمثيل بالجثث إلى اغتصاب وحرق وانتهاك صارخ للكرامة الإنسانية، سمعنا عن قتل أب لأطفاله وقتل طفل لوالده وشاب يقتل جدته من أجل الذهب، وطفلة تتعرض للاختطاف والاغتصاب والقتل وهكذا. لم تعد هذه الحوادث مجرد انحرافات فردية، بل غدت ظواهر متكررة تكشف عن هشاشة البنية النفسية والاجتماعية في بلد أنهكته الحروب والفقر. فهل نحن أمام أزمة جنائية فقط؟ أم أن المسألة أعمق، تمتد جذورها إلى تربة اجتماعية ونفسية واقتصادية مريضة؟
أولًا: الحرب كحاضنة للعنف
الحرب ليست مجرد مواجهة بالسلاح، بل حالة مستمرة من التوتر والقلق وانعدام الأمان، وهي بذلك تمثل بيئة خصبة لتحطيم المعايير الأخلاقية، وتفكيك البنى النفسية لدى الأفراد. في اليمن، خلفت الحرب:
أجيالًا تربت على العنف كوسيلة وحيدة للحياة والبقاء.
تحطيمًا تدريجيًا لهيبة القانون، فتراجعت سلطة الدولة أمام سلطات الأمر الواقع.
تطبيعًا مع الموت والدماء، ما جعل القتل مشهدًا مألوفًا لا يستدعي استنكارًا.
الأطفال الذين رأوا القنابل تدك منازلهم، والنساء اللواتي بكين على أطلال مدنهن، كبروا في بيئة تجعل العنف فعلًا متاحًا ومبررًا، لا خطيئة محرّمة.
ثانيًا: الفقر والحرمان: الطريق إلى الجريمة الصامتة
تشير دراسات اجتماعية عدة إلى علاقة طردية بين الفقر والجريمة، إذ يدفع الفقر الأفراد إلى:
البحث عن مكاسب سريعة عبر أي وسيلة، ولو كانت محرمة أو عنيفة.
الانزلاق إلى الإدمان والمخدرات هربًا من واقع قاسٍ.
الشعور باللاجدوى والعدمية، مما يجعل ارتكاب الجريمة فعلًا بلا تبعات نفسية ثقيلة.
وفي اليمن، حيث تجاوزت نسبة الفقر 80%، وانعدمت فرص العمل والاستقرار، لم يعد مستغربًا أن تنفجر هذه الضغوط في شكل جرائم جنونية.
ثالثًا: تفكك الأسرة والمجتمع
الحرب لم تقتل الناس فقط، بل قتلت قيمهم. فغياب الآباء، ونزوح الأمهات، وشتات الأسر، كل ذلك ساهم في نشوء:
جيل بلا توجيه أسري أو رقابة أخلاقية.
تفكك شبكات الدعم المجتمعي التقليدية (مثل الحارة، القبيلة، المسجد).
فوضى في القيم، حيث تحل البقاء محل الفضيلة، والغريزة محل الضمير.
رابعًا: المخدرات: تسلل السم في جسد مجتمع مسحوق
رغم أن اليمن لا يُعرف تقليديًا كبلد مصدر للمخدرات الكيميائية، إلا أن تقارير ميدانية وملاحظات شعبية تشير إلى:
ازدياد تعاطي الشبو والحبوب المخدرة، خصوصًا في المدن الكبرى.
شبهات بإضافة مواد مخدرة إلى بعض أنواع الشمة أو المعسل دون رقابة.
تجارة مخدرات خلفها شبكات تتكاثر في ظل الفوضى وانعدام الرقابة.
وهنا، يصبح الشاب الفقير، المحبط، هدفًا سهلًا لدوائر الإدمان التي تنتهي به إما مجرمًا أو ضحية.
خامسًا: الإعلام ومنصات التواصل: تعظيم الجريمة وتطبيع العنف
في ظل غياب إعلام مسؤول، تملأ منصات التواصل هذا الفراغ بـ:
ترويج فيديوهات القتل والاغتصاب وكأنها أخبار عادية.
تصوير المجرمين كأبطال أو ضحايا، بحسب الرواية الموجهة.
نشر الخوف والصدمة دون مساءلة.
كل هذا يُضعف مناعة المجتمع النفسية، ويُفقد الناس حساسيتهم تجاه الجريمة، مما يسهل تكرارها وتضخمها.
الحلول المقترحة: بين الممكن والمأمول
1. إعادة بناء النظام النفسي للمجتمع
إطلاق حملات وطنية لدعم الصحة النفسية، خصوصًا للأطفال والنازحين.
تدريب المرشدين الاجتماعيين في المدارس والمراكز الشبابية.
2. إصلاح اقتصادي حقيقي لا مجرد إغاثات
توفير فرص عمل للشباب ولو في شكل أعمال مؤقتة.
دعم المشاريع الصغيرة وتشجيع المبادرات المجتمعية.
3. مواجهة المخدرات بقوة قانونية ومجتمعية
إنشاء هيئة مستقلة لمراقبة المنتجات الاستهلاكية (كالشمة والمعسل).
تجريم بيع المواد المشتبه بتعديلها دون رقابة.
4. إصلاح إعلامي أخلاقي
فرض رقابة على المحتوى المتداول، خاصة مشاهد العنف.
تدريب الإعلاميين على تغطية الجرائم بحس أخلاقي ومسؤول.
5. إحياء شبكات الحماية التقليدية
إعادة الاعتبار لدور المساجد، والأحياء، والمؤسسات المجتمعية في ضبط السلوك العام.
خاتمة: الخلاص يبدأ من الداخل
لا يمكننا أن نواجه جرائم القتل والاغتصاب في اليمن بالإنكار أو بالتبرير. علينا أن نفتح جراحنا ونتأملها جيدًا، لا لننوح، بل لنعرف كيف نداوي. إنها ليست فقط أزمة قانون أو أمن، بل أزمة ضمير اجتماعي فقد توازنه. وعلينا، كل من موقعه، أن نعيد بناء الإنسان قبل أن نبني أي شيء آخر.
إبراهيم الهجري