لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
في خضم الأزمات المتكررة التي تعصف بالعالم المعاصر – من حروب وصراعات سياسية، إلى كوارث طبيعية وأزمات اقتصادية – أضحى الحديث عن "هجرة العقول" مألوفًا في الخطاب الإعلامي والأكاديمي. لكن هذا المصطلح، رغم شيوعه، ينطوي على رؤية سلبية تقوم على فقدان وتسرّب الموارد البشرية ذات الكفاءة. ومع تزايد الدعوات العالمية لإعادة النظر في هذا المفهوم، برز مصطلح "تداول العقول" كبديل أكثر عدلًا ودقة، ينظر إلى حركة العلماء والباحثين من زاوية التبادل المعرفي، لا الاستنزاف القومي.
هو مصطلح يشير إلى انتقال الأفراد ذوي الكفاءات العالية – مثل العلماء والأطباء والباحثين – من بلدانهم الأصلية إلى دول أخرى بحثًا عن بيئة علمية أفضل، غالبًا بسبب الحروب أو الفساد أو نقص الموارد. يُنظر إليه كفقدان مؤلم للقدرات الوطنية.
هو مصطلح حديث نسبيًا يعبر عن حركة تنقل دائرية وتفاعلية للكفاءات العلمية بين الدول، بحيث يستفيد منها البلد المضيف والبلد الأصلي على حد سواء، عبر شبكات التعاون، النشر المشترك، المشاريع الثنائية، أو حتى العودة المؤقتة والدائمة.
يُعد مفهوم "تداول العقول" استجابة لمجموعة من التحولات العالمية:
تصاعد الأزمات والتهجير القسري (كما في أوكرانيا، سوريا، فلسطين، السودان).
تدويل البحث العلمي، حيث أصبح النشر العلمي يعتمد على فرق متعددة الجنسيات.
توسع أدوات الرقمنة، مما أتاح للعلماء العمل عن بُعد والبقاء على صلة بمؤسساتهم الأصلية.
نمو مبادرات الدعم الدولية مثل "Science in Exile" و"IIE Scholar Rescue Fund".
لتحويل "هجرة العقول" إلى "تداول العقول"، ينبغي:
إنشاء مذكرات تفاهم بين الجامعات في الدول المضيفة والمؤسسات في الوطن الأصلي لضمان مشاركة الباحثين في مشاريع ثنائية.
تشجيع الأرشفة الرقمية، والمكتبات السحابية، ومختبرات البيانات المفتوحة، حتى يتمكن العلماء من الوصول لمواردهم دون انقطاع.
تحويل العلماء في الخارج إلى جسور معرفية، وليس مجرد مهاجرين. يمكن الاستفادة منهم كمحاضرين زائرين، أو مستشارين، أو مدربين عن بُعد.
إقرار تشريعات تسمح للباحثين العائدين بإعادة الاندماج في النظم البحثية دون بيروقراطية، ومنحهم تسهيلات لنقل معارفهم وتجاربهم.
لم تعد مغادرة العلماء لأوطانهم مأساة حتمية، بل يمكن أن تتحول إلى فرصة استراتيجية إذا أُديرت بوعي. فبدلًا من النظر إليهم كخسارة قومية، يجب أن نراهم كجزء من شبكة تداول معرفي عالمي. وبهذا، يصبح "تداول العقول" لا مجرد بديل لغوي عن "هجرة العقول"، بل تحولًا جذريًا في الرؤية والسياسات نحو مستقبل تشاركي يُبقي جذوة العلم مشتعلة مهما اشتدت العواصف.