لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
إبراهيم الهجري
في كتابه الرائد The Cerebral Code، يحاول ويليام إتش. كالفن، وهو طبيب أعصاب وعالم فيزيولوجيا عصبية، تقديم تفسير غير تقليدي لآلية عمل الوعي البشري. بعكس النظريات التقليدية التي تتناول الوعي من منظور فلسفي أو نفسي، فإن كالفن يغوص عميقًا في البنية العصبية للدماغ ليقترح نظرية فريدة: الوعي يُنتج من خلال عمليات داروينية سريعة تتم داخل قشرة الدماغ عبر "بلاطات" أو "موزاييك" من النشاط العصبي.
الفكرة الأساسية: التطور داخل الدماغ
تقوم نظرية كالفن على استعارة من علم الأحياء التطوري: كما تتطور الكائنات الحية في الطبيعة من خلال الانتقاء الطبيعي، كذلك تفعل الأفكار داخل الدماغ. لكن بدلًا من أن تأخذ هذه العملية ملايين السنين، فإنها تحدث في ثوانٍ أو أقل، داخل الشبكات العصبية.
كيف يحدث ذلك؟
النشاط العصبي كنقشات موزاييك:
القشرة الدماغية، وتحديدًا المناطق الترابطية منها، تحتوي على بنية سداسية الشكل، تشبه بلاطات الفُسيفساء (الموزاييك). في داخل هذه البلاطات، يتم ترميز المعلومات على شكل أنماط كهربائية متكررة ومترابطة.
التكرار والتنافس:
هذه الأنماط الموزاييكية لا تُوجد كنسخة واحدة فقط، بل توجد منها نسخ متعددة تنتشر على نطاق واسع عبر القشرة الدماغية. تبدأ هذه النسخ بالتنافس فيما بينها، تمامًا كما تتنافس الكائنات في الطبيعة.
الانتقاء العصبي السريع:
تنتقي القشرة الدماغية "أفضل" هذه الأنماط—أي الأنماط التي تتطابق أو تتناغم مع السياق أو المعنى أو الحاجة اللحظية. هذه الأنماط الفائزة تُعزز وتُكرر، بينما تُهمَّش أو تُطفأ الأنماط الأخرى.
نتيجة هذا التنافس: فكرة مكتملة، وعي لحظي، أو قرار واعٍ.
من الحلم إلى الجملة يصف كالفن العملية بشكل شاعري:
"الدماغ يبدأ بذكريات مبعثرة كالتي تراها في الأحلام، ثم ينتج منها جملة مفيدة."
في هذا التشبيه، الأحلام تمثل المادة الخام للأفكار: صور، مشاعر، ذكريات. ومن خلال التكرار، التنقيح، والانتقاء العصبي، تتحول هذه المادة إلى جملة ذات معنى—فكرة ناضجة أو قرار مدرك.
لماذا هذه النظرية مهمة؟
1. تجسر الفجوة بين البيولوجيا والفكر
تُعد هذه النظرية محاولة لفهم كيف تتحول العمليات الكهربائية والكيميائية إلى وعي وتجربة ذاتية. وهي واحدة من المحاولات القليلة التي لا تكتفي بوصف النتائج، بل تحاول تفسير الآلية.
2. تقدم نموذجًا ديناميكيًا للوعي
بدلًا من اعتبار الوعي شيئًا ثابتًا أو غامضًا، ترى هذه النظرية أن الوعي هو عملية مستمرة من الانتقاء والتكرار العصبي—ديناميكية باستمرار وتخضع للتغير في كل لحظة.
3. تؤثر في تصميم الذكاء الاصطناعي
النظر إلى الدماغ كنظام دارويني داخلي له تأثير مباشر على كيفية تصميم شبكات عصبية أكثر تعقيدًا في الذكاء الاصطناعي، حيث يُمكن محاكاة التكرار والتنافس بدلًا من مجرد التعلم الساكن.
نقد وتحديات
رغم عبقرية النموذج، يواجه بعض النقاد النظرية بالآتي:
غياب الأدلة التجريبية المباشرة: لا توجد بعد أدوات دقيقة تُمكن من رصد "الموزاييك" العصبي بالوضوح المطلوب.
الافتراضات كثيرة: تفترض النظرية أن القشرة تعمل كشبكة سداسية منتظمة، وهو أمر لم يُثبت بدقة على مستوى التكرار الذي يفترضه كالفن.
تفسير الوعي لا يساوي تفسير الشعور: تبقى "المشكلة الصعبة" في فلسفة الوعي قائمة: كيف يؤدي النشاط العصبي إلى الشعور بالذات؟
ختامًا، نظرية "الوعي الموزايكي" لويليام كالفن تمثل فتحًا مثيرًا في فهمنا لكيفية تشكل الأفكار والوعي داخل الدماغ. تُقدم رؤية جديدة ومُلهمة ترى أن كل فكرة وكل شعور هو نتاج عملية داروينية مصغرة تحدث داخلنا في كل لحظة. وبينما لا تزال النظرية تحتاج إلى إثباتات وتجارب أوسع، فإنها تُقدم لنا خريطة أولية لفهمٍ جديد للوعي—ليس كشيء جامد، بل كفسيفساء نابضة بالحياة من الأنماط العصبية المتكررة والمتطورة.
المصدر الأساسي:
William H. Calvin. The Cerebral Code: Thinking a Thought in the Mosaics of the Mind. MIT Press, 1996. رابط الكتاب في أول تعليق لمن أراد الاستزادة.