لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
في عالمٍ يزداد ضجيجه يومًا بعد يوم، نُغرق أنفسنا في سيلٍ لا ينتهي من الصور والأصوات، نلهث خلف الحشود، نبحث عن إشارات القبول، وننغمس في صراعٍ لا نعلم لمن يخص ولا إلى أين يقود. غير أن ثمّة دعوة خفيّة لا يسمعها إلا من هدأ صخبه الداخلي: دعوة إلى العودة للذات، حيث الكتاب الحقيقي يُكتب، وحيث القصّة الكبرى تنتظر من يرويها.
أنتَ لستَ صفحة بيضاء تنتظر من يخط عليها، بل كتابٌ حيّ، يكتب نفسه كلما قرأ، ويقرأ نفسه كلما كتب. لا حاجة لك إلى جمهورٍ خارجي يُصفّق أو يستهجن، فالجمهور الحقيقي هو تلك الحشود من الأفكار التي تتزاحم داخلك، تبحث عن صوت، عن نافذة، عن اعتراف.
في داخلك مسرحٌ كامل، تُؤدّى عليه كل لحظاتك الحقيقية، من الشك إلى الإيمان، ومن الخوف إلى الشجاعة، من الضياع إلى الاكتشاف. هناك تُكتب فصول قصتك الأعمق، لا بأقلام الآخرين، بل بنبضك، بدموعك، بفرحك، بلحظات الصمت التي ظننتها فراغًا، وكانت في الحقيقة امتلاءً لا يُضاهى.
حين تغوص في نفسك، لا تفعل ذلك بحثًا عن عزلة، بل بحثًا عن وحدة أسمى: الوحدة مع حقيقتك. في الأعماق، حيث يسكن الينبوع الصافي، لا تُرى الأشياء كما هي في سطحها، بل كما هي في جوهرها. هناك، تنقشع الظلال، وتتلاشى الأوهام، وتبدأ الحقائق بالتكشف رويدًا رويدًا، كضوءٍ يتسلل عبر شقوق الوعي.
لا تدع أصوات الحشود المذعورة بالخارج تُربكك، تلك التي تهرول خلف ملذاتٍ لا تشبع، وظلالٍ لا تنير. الحشود تهتف، ولكنها لا تُفكّر. تتدافع، ولكنها لا تعرف إلى أين. أما أنت، فقد خُلقت بجناحين: جناح الوعي، وجناح الحرية. فهل ترضى أن تحيا حبواً، وأنت تملك ما يُمكِّنك من التحليق؟
امضِ إلى الأعماق. لا تخشَ العزلة، فهي الأرض التي يُزرع فيها المعنى. أنصت إلى الحوار الداخلي، فهو نداء الروح حين تنضج، ورجْع الحقيقة حين تقترب. اسمح لأفكارك أن تتكلّم، لأحلامك أن تتنفس، لأوجاعك أن تعترف. لا تخرسها بالصخب، بل افهمها، فهي مفاتيح لأبواب لم تُفتح بعد.
كلّما رَقّت مياهك الداخلية، صفَت رؤيتك. كلّما سكنت، بدأت تسمع ما لا يُقال، وترى ما لا يُرى. هناك في العمق، ليس ثمة سحر، بل انكشاف. ليس هناك صوت خارجي يخبرك من أنت، بل أنت من تكتشف ذاتك، وتكتب كتابك الخاص، حرفًا حرفًا.
فكن قارئ نفسك، وكاتبها. واذكر دائمًا: من سكن أعماقه، لم يعد يحتاج للعالم ليمنحه المعنى، لأنه صار هو المعنى ذاته.
إذا لم تفهم هذا فاعلم أنه ليس لك فتجاوزه