لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
منشأ السؤال يكشف عن التباسٍ في الفهم بين طبيعة "الوحي الإلهي" وطبيعة "الوسوسة الشيطانية". فالوحي أمر جليل، منظَّم، مقصود، محفوظ، يُبلَّغ بدقة، ويتعلق به ثواب وعقاب، وهو خطاب من الخالق إلى خلقه، عبر بشر اصطفاهم لحمل هذه الأمانة. أما الوسوسة، فهي خطاب هامشي، غامض، متلصص، لا يحمل مضمونًا منظمًا ولا يتطلب تصديقًا أو التزامًا، بل هي دعوة للهوى، وليس حُجّة للعقل، وهي تأتي مختلطة بهوى النفس ورغباتها وانفلاتها من عقال العقل وميلها الغرائزي فيسهل تضمين تلك الوسوسة معها.
ولو تأمل السائل قليلًا، لأدرك أن الله عز وجل لا يخاطب خلقه كما يفعل إبليس، لأن الله لا يُراوغ ولا يوسوس ولا يُخادع ولا يستخدم أهواء النفس وزيغها. بل يخاطبهم على بيّنة وبصيرة، برسالة واضحة مفهومة، عن طريق رسول مُبشّر ونذير، يعيش بينهم، يواجه أسئلتهم، ويتحمّل تكذيبهم، ويُترجم الوحي إلى أخلاق وسلوك وقدوة، صاحب عصمة من الهوى ومطهر من نزغات النفس ورغائبها ومغامراتها. ولو كان الله ليتواصل مع كل فرد كما يوسوس إبليس، لانتهى معنى الرسالة، وسقطت غاية الامتحان، وانتفى مفهوم الإيمان القائم على السمع والطاعة عن بصيرة لا عن قهر أو إكراه.
الله تعالى لم يجعل الغاية مجرد "إبلاغ معلومات"، بل أراد بناء الإنسان على نورٍ من العلم والإرادة. ولذلك قال سبحانه:
{إنا سنلقي عليك قولًا ثقيلًا} [المزمل: 5]
ثقيل لأنه ليس فقط كلمات، بل منهج حياة، وعهد ومسؤولية، يقتضي تبليغًا نبيًّا، لا إلقاءً همسًا كوسوسة الشيطان. فالله لا يلعب دور المحرّض الخفي، بل دور المعلّم الجليل والمرشد المتعالي والحريص.
ثم إن تنزيل الوحي بلغة النبي وقومه هو من تمام الحكمة. فاللغة ليست حاجزًا ولا غاية، بل وسيلة للفهم والتمكين. قال تعالى:
{وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم} [إبراهيم: 4]
فالرسول لا يُرسل ليخاطب كل أمم الأرض بلغاتها، بل ليبدأ بقومه، ثم تتولى الأمة مهمة البلاغ للعالمين. ولو شاء الله أن يخاطب كل قوم بلغة، لفعل، ولكنها ستكون حجّة قاهرة لا محلاً للاختبار والإرادة، والله يقول:
{ولو شاء الله لجمعهم على الهدى} [الأنعام: 35]
لكن شاء أن يُمتحن الإنسان بالعقل والبحث والسعي، لا بالوحي المباشر القاطع الذي لا يُترك معه مجال للتكذيب أو الإيمان وتصبح حجة قاهرة لا حرية اختيار فيها.
أما إبليس، فليس لديه وحي محفوظ، ولا كتاب يُتلى، ولا منهج يُدرّس. إنما يتسلل في غفلة العقل، ويُزين الباطل، ويخاطب الهوى، لا العقل. ولذلك يُخاطب كل الناس، لأن رسالته لا تحتاج وضوحًا ولا منطقًا، فقط طيشًا وشهوة. وأما الله، فلا يخاطبك إلا بالحق، ويترك لك الخيار:
{فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} [الكهف: 29]
فالفرق بين الاثنين كالفرق بين مَن يدعوك إلى مدرسة لتتعلم وتبني نفسك، وبين من يهمس لك في زقاق مظلم لتهرب من كل مسؤولية.
لهذا، نزل جبريل إلى محمد ﷺ، بلغته، في قومه، برسالة مفصّلة، لتُترجم لاحقًا للعالمين.
لأن البلاغ يبدأ من قلب إنساني، نبيّ صادق، يشهد للناس لا يُفاجئهم بصوت غيبي، بل يحاورهم، يحبهم، ويحمل عنهم ثقل الرسالة. وقد لا تستطيع كل الأنفس تحمل التلقي المباشر من الخالق أو من الملائكة ولا يعلم سعة كل نفس سوى الخالق سبحانه.
وفي الختام، ليس العجب أن الشيطان يوسوس لكل أحد، بل العجب أن الله عزّ وجل ـ رغم قدرته على أن يُسمع الناس جميعًا ـ لم يفعل، رحمةً بنا واختبارًا لنا، كي لا نؤمن عن قهر بل عن فهم، وكي نستحق الجنة بإرادتنا، لا بإجبار سماويّ لا يترك مجالًا للحرية والاختيار.