لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
في بلدٍ أنهكته الانقسامات السياسية والحروب المتكررة، يبدو الحديث عن الجامعات والبحث العلمي ترفًا غير واقعي. لكن، لو أمعنّا النظر، لوجدنا أن الطريق إلى النهوض يبدأ من حيث يبدو المستحيل.. من المعرفة، ومن مشروع وطني تتوحد فيه كل الحكومات والجهات على هدفٍ واحد: أن تدخل جامعة يمنية واحدة على الأقل ضمن قائمة الألف الأولى في تصنيف QS (Quacquarelli Symonds) العالمي أو Times Higher Education (THE) أو تصنيف شنغهاي (Academic Ranking of World Universities – ARWU).
رغم أن الجامعات في منطقتنا العربية أصبحت تتنافس على من تدخل في المئة الأولى أو المئتين الأولى عالمياً، أو حتى الخمسمائة العالمية الأولى، لكننا في اليمن دعونا نبدأ بالألف الأولى كخطوة أولية. فليس من العيب أن نبدأ متأخرين، بل أن نستمر في الغياب.
من السياسة إلى العلم.. المعركة التي لم نخضها بعد
تتنافس القوى في اليمن منذ سنوات على السلطة والموارد، لكن لم تتنافس يومًا على العقول أو على المكانة العلمية.
الجامعات اليمنية اليوم — رغم ما تمتلكه من كفاءات بشرية لامعة — تُعاني من ضعف البنية البحثية، وغياب التمويل المنتظم، وانقطاع الشراكات الدولية، وانحدار البنية التحتية للمختبرات والمكتبات. ومع ذلك، يبقى في داخلها بذور نهوضٍ صادق تنتظر فقط أن تُروى بعناية ورؤية.
لو أن جزءًا يسيرًا من الإنفاق العسكري والسياسي وُجِّه إلى تطوير جامعة صنعاء أو جامعة عدن أو تعز أو حضرموت — تأهيل برامجها، تمويل أبحاثها، بناء شراكات مع جامعات من الفئة الأولى، وتدريب أساتذتها وفق معايير QS — لكان من الممكن خلال خمس سنوات أن نرى اسم اليمن في خريطة الجامعات العالمية المرموقة.
ما الذي يعنيه دخول جامعة يمنية في التصنيف؟
تصنيف QS ليس مجرّد ترتيب أكاديمي؛ إنه مؤشر على قوة الدولة في إنتاج المعرفة.
فالجامعات التي تتصدر التصنيف لا ترفع فقط شأنها، بل ترفع اسم بلدها في الساحة الدولية، وتجذب إليها الاستثمارات، والمنح، والشراكات البحثية.
حين تظهر "اليمن" إلى جانب دولٍ مثل السعودية، مصر، أو حتى قطر والإمارات في قوائم QS، فإن الرسالة التي تصل إلى العالم هي: هناك حياة فكرية هنا، وهناك من يزرع المستقبل وسط الركام.
ما الذي نحتاجه؟
رؤية وطنية موحدة للتعليم العالي، تتجاوز الانقسام السياسي وتعتبر الجامعة مشروعًا سياديًا.
هيئة وطنية مستقلة للتصنيف والجودة، تضع معايير واضحة، وتتابع تطبيقها ميدانيًا.
توأمة أكاديمية بين الجامعات اليمنية ونظيراتها الإقليمية المصنّفة، لتبادل الخبرات وتطوير الكفاءات.
تحسين بيئة البحث العلمي بتمويل سنوي حقيقي، وربط المشاريع البحثية باحتياجات التنمية.
تحفيز الكادر الأكاديمي عبر برامج تدريب، ونشر الأبحاث في المجلات الدولية المحكمة.
تحسين البنية التحتية الرقمية للمكتبات والمختبرات والمقررات الإلكترونية.
العلم كسلامٍ بديل
في بلدٍ مزّقته الحرب، سيكون مشروع الجامعة هو أذكى مشروع سلام.
فبدلًا من تنازع الحكومات على الأرض، يمكنها أن تتنافس على من يرفع تصنيف الجامعات، ومن يحظى بأكبر عدد من الباحثين في مجلات عالمية.
إن تحويل طاقة الصراع إلى طاقة معرفة ليس مجرد حلم أكاديمي، بل واجب وطني وأخلاقي.
خاتمة: معًا نحو معركة الضوء
قد لا يستطيع اليمن الآن أن يُنافس في الاقتصاد أو في البنى التحتية، لكنه قادر — إن أراد — أن ينافس في الذكاء والمعرفة.
فلنضع خلافاتنا جانبًا، ولنتوحد على مشروع بسيط لكنه عظيم المعنى: أن نرى جامعة يمنية واحدة ضمن الألف الأولى في تصنيف QS أو غيره من التصنيفات الرصينة وليس التصنيفات التي تعتمد على معايير الظهور في الانترنت..
فهذا المشروع لا يحتاج إلى اتفاق سياسي بقدر ما يحتاج إلى إرادة جماعية تؤمن أن النهوض يبدأ من قاعة الدرس، لا من فوهة البندقية.
23.10.2025