لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
بعد تخرجي من الثانوية من مدرسة هايل سعيد أنعم في أمانة العاصمة عام 97/1998م، بمعدل مرتفع، كانت دفعتنا آخر دفعة تؤدي خدمة "الدفاع الوطني" أو ما عُرف بالتجنيد الإجباري. قُسِّمنا حينها إلى فئتين: من هم دون 80% التحقوا بالخدمة العسكرية، أما من تجاوزوا ذلك المعدل فكانت خدمتهم الإلزامية في التدريس. وكان قدري أن أبدأ مسيرتي مع التدريس.
كانت السنة الأولى من خدمتي في التجنيد الإلزامي بمثابة تمرين أولي على التحدي، فقد قضيتها في مدرسة موسى بن نصير في بني قشيب أدرّس طلابًا رائعين، أتعلم وأعلّم في الوقت ذاته. لكن ما إن أشرقت شمس السنة الثانية حتى حملت حقيبتي إلى وجهة جديدة.
خلال عامين قضيتُهما في التدريس الإلزامي، كنت أُعدّ نفسي لهدفي الأسمى: اختبار القبول في كلية الطب. كنت أعيش على يقين أن مكاني هناك محفوظ، وأن أحلامي ستُفتح أبوابها مع أول إعلان للنتائج.
قد يظن البعض أن الفيزياء كانت خيارًا أدنى. لكنني رأيتها معركة أخرى، ليست أقل شرفًا. فمنذ طفولتي كان سؤال "لماذا؟" رفيقي الدائم. لماذا يحدث هذا؟ ولماذا يتكرر ذاك؟ (ومن يعرف طفولتي يعرف ذلك) كنت مشغولًا دومًا بالبحث عن الأسباب والعلل، والفيزياء بدت لي الجواب الطبيعي لهذا العطش. الكون الكبير بكل أسراره، بكل ظواهره، بدا مغريًا بقدر إغراء دراسة الجسد البشري.
في صيف عام 2004، كان الهواء مشبعاً برائحة النهاية والبدايات. نهاية مرحلة طويلة من السهر والكد والاجتهاد، وبداية طريق جديد لا أعرف إلى أين سيمتد. ذلك اليوم لم يكن يوماً عادياً، كان يوماً استثنائياً بكل ما تحمله الكلمة من معنى.. يوم التخرج من جامعة صنعاء بكالوريوس التربية – قسم الفيزياء الدفعة 24 دفعة الصدارة. خلال أربع سنوات اجتزت أكثر من 135 اختبارا نهائيا ومثلهم نصف نهائي وواجبات وتقارير وغيرها.
بعد التخرج، كان أمامي طريقان متوازيان، كأنهما سطران على صفحة جديدة من حياتي: إما أن ألتحق بوزارة التربية والتعليم، فأصير معلماً للفيزياء في مدارس الثانوية، أو أن أبقى في كنف وزارة التعليم العالي، حيث الجامعات، وأحلام البحث والتدريس الأكاديمي.
حين وطئت قدماي كلية التربية بحجة، كنت أشعر أنني أبدأ فصلًا جديدًا في حياتي، محمّلًا بآمال كبيرة ومثقلًا بتحديات لم أكن أتخيل حجمها. دخلت المعامل بين أروقة الكلية، وكانت من نصيبي عدة مقررات عملية، اقتربت فيها من الطلاب أكثر مما يتيحه أي درس نظري.
في قريتي الصغيرة ، بين مدرجات خضراء وطرقات ضيقة، بدأت حكايتي. هناك أنهيت الصف الأول الإعدادي بمدرسة الفوز بـ عرون النوبة، قبل أن تدفعنا الظروف إلى الرحيل. كانت الهجرة الأولى في حياتي.. صوب البحر.