لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
ما يجري اليوم في منطقتنا ليس حدثاً عابراً، ولا هو مجرد صدفة جيوسياسية فرضتها قوى كبرى من الخارج، بل هو – في جوهره – انعكاس لتاريخ طويل من التراكمات والتقصيرات الداخلية. كأمة وشعوب وجماعات سياسية، ندفع ثمن ما زرعناه من انقسامات وصراعات، ونُعاقب ـ بشكل غير مباشر ـ على عزوفنا الجماعي عن بناء أسس القوة الحقيقية: العلم، الابتكار، التصنيع، الاقتصاد، والقوى الناعمة.
أولاً: التشظي على مستوى الدول
تاريخنا الحديث يكشف أن معظم الكيانات السياسية العربية وُلدت في بيئة مضطربة، مُثقلة بإرث استعماري رسم حدوداً على الورق أكثر مما رسّخ أوطاناً في النفوس. هذا التأسيس الهش جعل الدولة العربية، في أغلب الحالات، مشروعاً ناقصاً: ضعيف المؤسسات، مرتهناً للشرعية الخارجية أو القبلية أو الطائفية، أكثر من كونه عقداً اجتماعياً متيناً. النتيجة أن أي هزّة خارجية أو داخلية كانت كافية لتمزيق النسيج الوطني.
ثانياً: التشظي داخل المجتمعات
لم تقتصر الانقسامات على حدود الدول، بل تسللت إلى عمق المجتمعات. الطائفية والمناطقية والقبلية تحولت من تنوع طبيعي إلى خطوط تماس وصراع، بينما غابت الهوية الجامعة القادرة على صهر الاختلافات في مشروع وطني حضاري. هذا التصدع الداخلي جعل المجتمعات العربية عرضة للاستقطاب، سواء عبر التدخلات الخارجية أو عبر مشاريع سلطوية داخلية تبحث عن شرعية بديلة.
ثالثاً: فوات قطار القوة الحقيقية
القوة في عالم اليوم لم تعد تُقاس بعدد الجنود أو مساحة الأرض، بل بما تملكه الأمم من:
العلم والمعرفة: الدول التي استثمرت في التعليم والبحث العلمي باتت قادرة على فرض حضورها. بينما نحن ما زلنا نُعاني من جامعات تعيش على هوامش المعرفة العالمية، وبحث علمي بلا بنية ولا إرادة.
الابتكار والتصنيع: كل نهضة صناعية في التاريخ كانت بوابةً إلى الاستقلالية والسيادة. في المقابل، اقتصاداتنا لا تزال أسيرة المواد الخام والاستهلاك.
الاقتصاد المتنوع: غياب التنويع الاقتصادي جعلنا رهائن لتقلبات النفط والغاز، أو للمساعدات والقروض، بدل أن نصبح شركاء في الإنتاج العالمي.
القوى الناعمة: بينما تُدرك قوى كبرى أن السينما، الثقافة، التكنولوجيا، وحتى أسلوب الحياة، أدواتٌ للهيمنة والتأثير، نحن بالكاد نوظف تراثنا وثقافتنا العريقة في بناء صورة عالمية مشرقة.
رابعاً: مسؤولية الحكومات والمجتمعات
لا يمكن تحميل الحكومات وحدها وزر هذا الفشل. فالمجتمعات أيضاً ساهمت – بوعي أو بلا وعي – في ترسيخ دائرة الضعف: الانشغال بصراعات الهوية، التبعية الفكرية والاقتصادية للخارج، تراجع قيم العمل والإنتاج، والرضا بالحلول السهلة بدل السعي إلى التغيير البنيوي.
خامساً: النتيجة الحتمية
عندما تتضافر هذه العوامل، تصبح المنطقة مسرحاً مفتوحاً لتدخل القوى الكبرى والإقليمية. ليس لأن العالم أكثر شراسة معنا، بل لأننا تركنا فراغاً هائلاً في القوة.. والفراغ في السياسة لا يدوم.
خاتمة: من دفع الثمن إلى استعادة الدور
نحن اليوم أمام مفترق طرق. إما أن نستمر في دفع ثمن الماضي عبر مزيد من التشظي والضعف، أو نعيد بناء مشروع نهضوي يعالج جذور الأزمة. البداية ليست مستحيلة: إصلاح التعليم، تمكين البحث العلمي، استعادة ثقافة العمل، وتنمية روح المواطنة الجامعة. هذه ليست شعارات، بل وصفة تاريخية أثبتت نجاحها لدى أمم كانت أضعف منا ثم أصبحت أقوى.
السؤال إذن: هل نتوقف عند جلد الذات، أم نمتلك الجرأة للانتقال من مرحلة الاعتراف بالخطأ إلى مشروع إصلاح حقيقي يليق بأمة قديمة الجذور، واسعة الامتداد، لكنها لم تعرف بعد كيف تستثمر طاقاتها؟