لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
رغم أن العلم هو أحد أعظم إنجازات البشرية، ووراء كل تقدم طبي أو تكنولوجي أو اتصالي نعيشه اليوم، إلا أن أصواتًا ما زالت ترتفع لتشكك فيه، ترفض نتائجه، بل أحيانًا تسخر من العلماء وتتهمهم بالكذب أو التآمر. فكيف نفسر هذا التناقض بين منجزات العلم الواضحة، واستمرار الشك فيه؟ للإجابة عن هذا السؤال، لا بد من الغوص في عدة عوامل نفسية، معرفية، اجتماعية وتاريخية.
أولًا: سوء الفهم لطبيعة العلم ومنهجيته
من أكثر أسباب التشكيك شيوعًا هو عدم فهم كيف يعمل العلم أصلًا. يعتقد البعض أن النظرية العلمية ليست إلا "رأيًا" قابلًا للتغيير في أي لحظة، كما يعتقدون أن التغيّرات أو المراجعات التي تحدث في الاكتشافات العلمية دليل على ضعفها أو تضاربها. والواقع أن هذا هو جوهر العلم نفسه: قابلية التطوير والتصحيح.
"العلم ليس مجموعة من الحقائق الثابتة، بل طريقة في التفكير، ومنهجية في البحث عن الحقيقة." – كارل ساغان
عندما يقول العلماء إن "نظرية التطور" أو "نظرية الجاذبية"، فهم لا يقصدون بها مجرد فرضية عشوائية، بل نموذجًا تفسيريًا مدعومًا بكم هائل من الأدلة المتراكمة والملاحظات الدقيقة والتجارب القابلة للتكرار. فالنظرية في العلم لا تعني "الشك"، بل تعني "أفضل تفسير علمي متاح حتى الآن".
ثانيًا: قِدم ظاهرة الشك في العلم
التشكيك في العلم ليس جديدًا، بل هو ظاهرة ضاربة في التاريخ. لطالما واجه العلماء تحديات عنيفة عندما قدّموا أفكارًا تهدد البُنى الفكرية والدينية والاجتماعية السائدة.
سقراط أُعدم لأنه “يفسد عقول الشباب” بأسئلته الفلسفية.
جاليليو أُجبر على التراجع عن دعمه لنظرية مركزية الشمس، وعاش بقية حياته تحت الإقامة الجبرية.
لويس باستور سخر منه بعض الأطباء في عصره لحديثه عن "كائنات دقيقة لا تُرى بالعين".
هذه الأمثلة تكشف أن مقاومة المعرفة الجديدة جزء من النفس البشرية، خصوصًا عندما تهدد الثوابت أو تعيد تشكيل العالم كما نعرفه.
ثالثًا: قلة التعليم أو التخصص العلمي
من الطبيعي أن يكون غير المتخصصين أقل دراية بآليات البحث العلمي أو بمصداقية المؤسسات العلمية. المشكلة لا تكمن في الجهل ذاته، بل في الثقة المفرطة بالرأي الشخصي أو المصادر غير الموثوقة، والتقليل من أهمية سنوات طويلة من الدراسة والخبرة العلمية.
وقد أظهرت الدراسات الحديثة أن نسبة كبيرة من المشككين بالعلم – خاصة في موضوعات مثل اللقاحات أو التغيّر المناخي – هم ممن يتلقون معلوماتهم من مواقع غير علمية، أو من مؤثرين يفتقرون لأي خلفية تخصصية.
رابعًا: سهولة انتشار المعلومات الخاطئة
في عصر الإنترنت، لم تعد المعلومة تحتاج إلى مؤسسات علمية رصينة لتنتشر، بل يكفي فيديو واحد جذاب على تيك توك أو منشور “صادم” على فيسبوك ليقنع الآلاف بمعلومة زائفة.
وقد أظهرت دراسة نشرتها مجلة Science (Vosoughi et al., 2018) أن الأخبار الكاذبة تنتشر أسرع من الأخبار الصحيحة على وسائل التواصل، لأنها أكثر إثارة وعاطفية.
في هذا المناخ، يصبح من السهل جدًا أن تتشوّه صورة العلماء، أو تُفهم نظريات علمية معقدة بشكل خاطئ، ما يؤدي إلى التشكيك والرفض دون أسس عقلانية.
خامسًا: صدام العلم مع المعتقدات الدينية والثقافية
حين يأتي العلم بتفسيرات تصطدم مع ما تعوّد عليه الناس من تقاليد دينية أو ثقافية، ينشأ نوع من الدفاع الغريزي ضد الجديد. فالمعلومة الجديدة تهدد “سردية الهوية”، وتعيد صياغة فهم الإنسان لنفسه وللعالم، مما يثير الرفض بدل الحوار.
وهذا يُفسّر – مثلًا – الصراع الذي واجهته نظريات مثل التطور، أو التفسيرات الكونية لنشأة الكون، أو حتى بعض الموضوعات الطبية مثل التلقيح أو زراعة الأعضاء.
سادسًا: نظريات المؤامرة وفقدان الثقة
عندما يغيب الفهم العلمي الدقيق، تتسلل نظرية المؤامرة لتملأ الفراغ. يعتقد بعض الناس أن العلماء جزء من "نخبة متآمرة" تتحكم في الحقيقة أو توجّه المجتمعات وفق مصالح خفية. ويزداد هذا الشعور في البيئات التي تعاني من الاستبداد أو الفساد أو انهيار ثقة المواطنين في مؤسسات الدولة.
"المؤامرة هي العلم البديل للفقراء." – روبرت بروكتور (Robert Proctor)، مؤسس علم الجهل (Agnotology)
من الأمثلة المشهورة: من يعتقد أن شركات الأدوية تخفي علاج السرطان، أو أن ناسا تزيف صور الفضاء، أو أن اللقاحات تحتوي على شرائح تتبع.
سابعًا: تجارب سلبية مع العلم أو المؤسسات
أحيانًا يكون الشك وليد تجربة شخصية أو كارثة تاريخية. فهناك تجارب علمية غير أخلاقية وقعت في الماضي، مثل:
تجربة توسكيجي (Tuskegee) الشهيرة في الولايات المتحدة التي أخضعت السود لتجارب على الزهري دون علاج.
أو دعم بعض العلماء لنظريات عنصرية كالعلم الزائف للقياسات الجمجمية في القرن 19.
هذه التجارب تخلق جروحًا في الوعي الجمعي، يصعب نسيانها، وتُستخدم أحيانًا لتبرير رفض كل المؤسسات العلمية، رغم أن العلم ذاته – كمنهج – يُدين هذه الممارسات.
ثامنًا: العلم يصحح نفسه، لكنه ليس معصومًا
من المفارقات أن بعض الناس يستخدمون القدرة التصحيحية للعلم كحجّة ضده! فيقولون: "إذا غيّر العلماء آراءهم لاحقًا، لماذا نثق بهم الآن؟".
والحقيقة أن هذه المرونة هي سرّ قوة العلم. لا يدّعي امتلاك الحقيقة المطلقة، بل يسعى دومًا لتحسين معرفته. وهذا ما يميزه عن المعتقدات الجامدة.
خاتمة: الشك سلوك نبيل... إذا كان عقلانيًا
الشك ليس عيبًا. بل هو أصل التفكير العلمي نفسه. لكنه يجب أن يكون مبنيًا على تساؤل عقلاني، لا على الجهل أو الخوف أو المؤامرات. العالم لا يطلب من الناس أن يصدقوه بلا دليل، بل يدعوهم إلى النظر في الأدلة وفهمها.
العلم ليس أداة نخبوية، بل وسيلة متاحة لكل من أراد أن يفهم. وكلما ازداد الإنسان علمًا، كلما قلّت خرافاته، وازداد اقترابه من الحقيقة.
مصادر موثوقة:
Carl Sagan, The Demon-Haunted World, 1995.
Robert Proctor & Londa Schiebinger (Eds.), Agnotology: The Making and Unmaking of Ignorance, 2008.
Vosoughi, Roy, et al. "The spread of true and false news online." Science, 359(6380), 2018.
Naomi Oreskes & Erik M. Conway, Merchants of Doubt, 2010.