لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
إذا اكتشفنا حضارة ذكية في أعماق الكون، حضارة سبقتنا في الوعي والتقنية بملايين السنين، فهل سنجد عندهم علم رياضيات يشبه ما لدينا؟ هل سيتحدثون عن التفاضل والتكامل، والمصفوفات والهندسة، والثوابت كـπ وe؟ أم سيملكون نظامًا فكريًا مغايرًا تمامًا، لا يعرف الأعداد كما نعرفها، ولا يبني مفاهيمه على منطق الثنائية (صح/خطأ) الذي تتأسس عليه رياضياتنا؟
هذه الأسئلة ليست ضربًا من الخيال العلمي فحسب، بل تمثل تقاطعات عميقة بين الفلسفة، والفيزياء، وعلوم الإدراك، بل وجوهر ما تعنيه "المعرفة" نفسها.
الرياضيات كما نفهمها اليوم تظهر لنا كلغة "كونية". إنها تنجح، بشكل مدهش، في توصيف أدق تفاصيل الواقع، من حركة الكواكب إلى فيزياء الجسيمات. أينما وجهنا أدواتنا العلمية، نجد المعادلات تنتظرنا هناك، كأنها كانت في انتباه صامت طوال الوقت. لهذا السبب يرى كثير من الفلاسفة والعلماء، من أمثال أفلاطون وحديثًا ماكس تيغمارك، أن الرياضيات ليست من خلق أذهاننا، بل نحن نكتشفها كما نكتشف القوانين الطبيعية. هذه الرؤية، المعروفة باسم "الواقعية الأفلاطونية"، تفترض أن للرياضيات وجودًا مستقلًا، خارج العقل البشري، وأن أي كائن ذكي، في أي ركن من أركان الكون، سيجد نفسه مضطرًا للوصول إلى نفس اللبنات الرياضية، حتى لو عبر عنها برموز وأشكال مختلفة.
لكن في الجهة المقابلة، هناك من يرى الرياضيات كلغة اختلقناها نحن لنفهم بها ما لا نستطيع إدراكه بالحواس. من هذا المنطلق، تُعتبر الرياضيات مثل الموسيقى أو اللغة: نظام رمزي طوره العقل البشري لينظم به الفوضى، أو ليمنح الشكل لكون غير محدد. حضارة فضائية، بحسب هذا التصور، قد تمتلك رياضيات لا تشبه رياضياتنا إطلاقًا، لأنها نابعة من "أدوات إدراك" مختلفة. لو كانت تلك الكائنات ترى الزمن لا المكان، أو تتعامل مع الواقع كوحدة لا كأجزاء، فقد تكون رياضياتهم "غير خطية"، لا تتعامل مع السبب والنتيجة كما نفعل نحن، بل تتبنى تصورًا دائريًا أو شبكيًا للعالم. في هذه الحالة، سيكون من الصعب علينا حتى أن ندرك "أنها" رياضيات.
تبدو الحقيقة إذن وكأنها تقع في مكان وسط. نعم، هناك بنى رياضية يبدو أنها تتجاوز الثقافة واللغة—مثل الأعداد الأولية، أو فكرة اللانهاية، أو مفهوم التغير الذي يتجلى في التفاضل والتكامل—لكننا أيضًا نصوغها بأدواتنا البشرية، ونتبناها لأنها نجحت معنا. فكما أن الخريطة لا تتطابق تمامًا مع الأرض، فإن الرياضيات لا تتطابق بالضرورة مع الواقع، بل هي وسيلة فعالة لرسمه بصورة مفهومة. بعض الفلاسفة يقترحون أن الرياضيات تبدأ كاختراع، لكن حين تثبت فعاليتها وتسمح لنا بالتنبؤ، تتحول إلى ما يشبه الاكتشاف.
هذه العلاقة المربكة بين العقل والمعادلة تظهر بجلاء في تساؤل الفيزيائي يوجين ويغنر الشهير: "ما سر الفاعلية غير المعقولة للرياضيات في العلوم الطبيعية؟". هذه العبارة، البريئة في ظاهرها، تكشف عن دهشة العلماء أنفسهم: لماذا تنجح أدوات منطقية محضة، لم تُصمم لفهم الطبيعة، في توصيفها بهذا القدر من الدقة؟ أهو اتفاق صدفة؟ أم أن الواقع نفسه مكتوب بلغة رياضية؟
ما يزيد الأمور غرابة هو أننا نكتشف أحيانًا مفاهيم رياضية خالصة، ليس لها تطبيق فوري، ثم تظهر لاحقًا كجوهر في فيزياء الكون. مثال شهير على ذلك هو "الهندسة اللا إقليدية" التي كانت في القرن التاسع عشر نوعًا من التمرين الرياضي الخالص، ثم ظهرت لاحقًا كأساس لفهم الزمكان في نظرية أينشتاين النسبية العامة.
كل هذا يعيدنا للسؤال المحوري: هل سنفهم حضارة أخرى عبر رياضياتنا؟ أم سنحتاج أن "نترجم" كونهم إلى مفاهيمنا؟ في فيلم Arrival، حين تصل كائنات لا تدرك الزمن بشكل تسلسلي، تُجبرنا على التخلي عن أدواتنا المعتادة، بما في ذلك اللغة والخط الزمني، لفهم كيف تتحدث وكيف تفكر. لعل الرياضيات عندهم ليست "رموزًا" بل "رؤى". ليست معادلات، بل أنماط في الإدراك.
في نهاية المطاف، يبدو أن الرياضيات، مثل الوعي، تقع في المسافة الغامضة بين الاكتشاف والاختراع، بين الواقع واللغة، بين ما هو في العالم وما هو في الدماغ. وربما، حين نلتقي حضارة أخرى ذات يوم، سنكتشف أن السؤال ليس: هل لديهم رياضيات؟ بل: أي شكل من "الفهم" طوّروه لاحتواء العالم؟ وحينها، قد لا نعرف الجواب من المعادلات، بل من قدرتنا على الإصغاء لاختلافاتهم دون أن نفقد ما هو مشترك في إنسانيتنا وكينونتنا العاقلة.
ابراهيم الهجري