لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
يرى البعض أن الأنظمة الرأسمالية تظلم الأفراد وتدفعهم إلى سباق لا ينتهي وراء المال، بما يستنزف طاقاتهم ويجعلهم في حالة ضغط دائم. لكن عند التأمل والمقارنة مع البلدان غير الرأسمالية، يتضح أن السعي وراء المال والعيش تحت وطأة الضغوط ليس حكرًا على المجتمعات الرأسمالية وحدها. فالإنسان في كل مكان يكدح من أجل تأمين احتياجاته، غير أن الفوارق تظهر في طبيعة هذا الكدح ومستوى الحياة الناتج عنه.
في الدول الرأسمالية، ورغم ما يُؤخذ عليها، هناك منظومة قانونية تحمي حقوق الأفراد وتضمن حدًّا أدنى من العدالة، إضافة إلى أنظمة ديمقراطية تتيح تداول السلطة وفرص المشاركة السياسية. كما توفر هذه المجتمعات تأمينًا صحيًا وتقاعديًا، وضمانات قانونية، ومستويات دخل تسمح بمواجهة تكاليف الحياة بجودة أعلى بكثير مما هو متاح في بلدان تعاني الصراعات أو ضعف البنى المؤسسية.
أما في العديد من الدول النامية أو الفقيرة، فالمعركة اليومية لا تدور حول تحسين جودة الحياة، بل حول الحصول على أساسيات البقاء من طعام ومسكن وعلاج. هناك يتعرض الأفراد لمظاهر الاستبداد والتمييز وغياب العدالة، ومع ذلك يتكرر القول بأن "الرأسمالية تستنزف الإنسان" دون مراجعة نقدية أو مقارنة واقعية.
الحقيقة التي لا يختلف عليها أحد أن الحياة بطبيعتها قائمة على الكبد والصبر. لكن هناك فرق بين مكابدةٍ لتحسين مستوى الحياة ضمن منظومة تحمي
الحقوق، وبين مكابدةٍ لا تمنح سوى الحد الأدنى من مقومات العيش.
ولا يمكن إغفال دور الدين والمعتقد والحياة الاجتماعية في هذه المعادلة. ففي المجتمعات الرأسمالية، يظل الدين حاضرًا في المجال الخاص ويؤثر في القيم الفردية والأسرية، لكن الإطار العام للحياة تنظمه الدولة المدنية وقوانينها، ما يخلق نوعًا من التوازن بين الحرية الشخصية والمسؤولية الاجتماعية. أما في كثير من البلدان غير الرأسمالية، فالدين والمعتقدات يتداخلان بشكل أوثق مع البنية السياسية والاجتماعية، الأمر الذي يمنح الأفراد شعورًا بالهوية والانتماء، لكنه في المقابل قد يفتح المجال أمام استغلال الدين لتبرير الاستبداد أو تقييد الحريات. وعلى المستوى الاجتماعي، نجد أن الرأسمالية تعزز النزعة الفردية لكنها توفر شبكات حماية وخدمات عامة، بينما تعزز المجتمعات الأخرى الروابط التقليدية والأسرية بوصفها وسيلة دعم رئيسية، وهو ما يعكس تنوع أنماط التكافل الاجتماعي بين نموذج وآخر.
فهل يعني ذلك أن الرأسمالية هي النموذج الأفضل؟ ليس الهدف التصفيق لها بقدر ما هو توصيف الواقع. فما دام لم يظهر نظام بديل يحقق مستوى أرقى من العدالة وجودة الحياة، فإن الرأسمالية تبقى – برغم نواقصها – أكثر قدرة على تلبية تطلعات الإنسان مقارنة بالنماذج الأخرى. الحكم في النهاية ليس بالكلام أو الشعارات، بل بما يقدمه الواقع الملموس.