لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
في مجتمعات الجهل والعنصرية، لم يعد الإبداع يُقاس بما يُنتَج من فكرٍ، أو يُصاغ من جمال، أو يُخلَق من فرادة، بل صار يُقاس بمن يحمله، من أي بيت خرج، وما نوع السيارة التي أوصلته إلى الندوة. في تلك البيئات، لا يُسمع صوت المبدع إن لم يكن محمولًا على أكتاف الجاه أو الثراء، كأن الإبداع حرفة وراثية، وكأن الموهبة لا تهبط إلا على من وُلدوا وفي أفواههم ملاعق من ذهب.
كثيرون هم أولئك الذين يصعدون من القاع، من العتمة، من الحارات البسيطة والأزقة المنسية، يكتبون بمداد الألم، ويخطّون بشقوق أيديهم تاريخًا جديدًا للمعنى. يُبدعون لا ليظهروا في المجلات، بل ليحافظوا على ما تبقّى من اتزانهم النفسي وسط عالمٍ لا يعترف بمن لا يحمل لقبًا، أو أرصدةً، أو صلات.
وفي المقابل، نجد من يفتح له الإعلام بابه لمجرد أنه "ابن فلان"، أو "حفيدة علّان"، فتُمنَح له المنصات، وتُصفَّق له القاعات، وتُنشَر له الكتب حتى قبل أن تُكتب. كأن هذا العالم قد قرر مسبقًا أن الموهبة لا تسكن إلا القصور، وأن المبدع الحقيقي لا يمكن أن يأتي من كوخ، أو من بيت طيني فوق سفحٍ مهجور.
فما الذي يجعل المجتمع أعمى عن المبدعين الحقيقيين؟
هو مرضٌ خفيّ اسمه عبادة الواجهة. مجتمعٌ مبتلى بقصر النظر، لا يرى إلا بريق الوجاهة، ولا يسمع إلا من ارتدى أغلى البذلات أو (الجنابي) أو جاء بتوصية نافذة. إنه كمن يقف أمام لوحة عظيمة مرسومة بفحمٍ بسيط، فلا يراها لأنها غير مؤطرة بإطارٍ ذهبي.
وهنا تكمن الفضيحة الأخلاقية: أن يُغفل جهد من صعد الجبل على يديه وركبتيه بعصامية فريدة، لأن لا أحد من علية القوم قال إنه يستحق. أن يُحتقر الإبداع حين يكون من أبناء "العاديين"، وتُعظَّم الرداءة حين تخرج من أبناء "المعتبرين".
هذا عوار لا يصيب الأفراد وحدهم، بل يُهلك الأمم. فحين يُقصى المبدعون الحقيقيون، لا لخلوّهم من الموهبة، بل لخلوّهم من الوساطة، فإن الأمة تخسر بوصلة نهضتها، وتحتضن نسخة باهتة من نفسها.
الإبداع لا يُقاس بالأنساب، ولا يُمنح بحسب كشف الحساب البنكي. إنه، ببساطة، نور يتفجّر من أعماق الإنسان حين تضيق عليه الأرض بما رحبت. هو لغة الجوع إلى المعنى، وصرخة الروح الباحثة عن ضوءٍ في هذا العتم الكثيف.
فرفقًا بالمبدعين،
ولنحذر أن نكون مجتمعاتٍ تطرد الأنقياء لأنهم خرجوا من الحيّ الفقير، وتُبايع المهرّجين لأنهم جاؤوا في عرباتٍ فاخرة.