لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
في كل مرة نناقش واقعنا العربي الثقافي، يلوح في الأفق شبح السؤال الكبير: من المسؤول؟ وفي غمرة البحث عن أعذار، يتسلل اتهام خافت للأمم الأخرى، وكأنها وضعت الحواجز بيننا وبين المعرفة. لكن مهلاً.. هل منعتنا الأمم الأخرى أن نقرأ؟
❖ كم مكتبة زرت في بلدك؟
فلنسأل أنفسنا بصدق: كم عدد المكتبات العامة في مدينتك؟ وإن وُجدت، فهل هي مفتوحة؟ مزودة؟ محدثة؟ هل يشعر القارئ حين يدخلها أنه داخل كيان معرفي حي، أم إلى مكان مهجور يُستعمل لتوقيع الأوراق الرسمية أو لعقد الأنشطة المدرسية الروتينية؟
في فنلندا، التي يبلغ عدد سكانها حوالي 5.5 ملايين نسمة فقط، توجد أكثر من 730 مكتبة عامة، أي ما يقارب مكتبة واحدة لكل 7500 نسمة. أما في كثير من الدول العربية، فعدد المكتبات العامة لا يوازي عدد فروع مطاعم الوجبات السريعة في مدينة واحدة.
❖ كم كتابًا ننتج؟
وفق تقرير اتحاد الناشرين العرب، لا يتجاوز عدد الكتب التي تصدر سنويًا في معظم الدول العربية الكبرى حاجز 7000 إلى 8000 كتاب في أحسن الأحوال. للمقارنة، تصدر تركيا أكثر من 42 ألف عنوان سنويًا، بينما تنشر إسبانيا (بـ47 مليون نسمة) ما يزيد عن 80 ألف كتاب سنويًا.
أما اليابان، فتنتج سنويًا قرابة 100 ألف عنوان، وتتوفر خدمات استعارة إلكترونية وشخصية تصل إلى الأرياف والقطارات ومواقف الحافلات.
❖ كم ساعة نقرأ يوميًا؟ ومن يقرأ أصلًا؟
في تقرير أصدرته "مؤسسة مؤشر القراءة العربي"، وُجد أن معدل القراءة للفرد العربي لا يتجاوز 6 دقائق سنويًا في غير الكتب الدراسية، مقارنة بـ200 ساعة سنويًا للفرد الأوروبي.
في كوريا الجنوبية، يقرأ الفرد ما معدله 40 كتابًا سنويًا، وفي كندا 19 كتابًا، أما في الدول العربية، فالأرقام محزنة إلى حد يصعب ذكره دون الشعور بالذنب الجمعي.
❖ ماذا نقرأ؟ ومَن يقترح علينا ماذا نقرأ؟
كم مرة سمعت خطيب جمعة أو برنامجًا توعويًا يحث الناس على القراءة؟ ومتى كان ذلك الحث يتجاوز كتب السير والعقائد والرقائق؟ متى تم الترويج لقراءة كتب في العلوم، الفلسفة، النقد، الأدب العالمي، أو التكنولوجيا والاقتصاد المعرفي؟
الخطاب السائد يدعو للقراءة، لكن دون تحديد الوجهة. وكأن المطلوب هو فعل القراءة ذاته، لا نوع المعرفة التي نُقبل عليها.
❖ نحن لا نُمنَع من القراءة.. بل نُترك لها
الحقيقة المؤلمة أن لا أحد يمنعنا من القراءة. لكن المؤسف أكثر أن لا أحد يدفعنا إليها أيضًا. نحن لسنا ضحايا مؤامرة ثقافية، بل ضحايا تقصير داخلي شامل، يبدأ من البيت، ولا ينتهي عند السياسات التعليمية، مرورًا بالإعلام، والمحتوى العربي الرقمي، والتشريعات الداعمة للنشر.
في السويد إن لم تخني الذاكرة، تمنح الدولة كل طفل "حقيبة كتب" مجانية عند ولادته، وتُرسل كتبًا دورية إلى منزله حتى سن المدرسة. أما في وطننا، فكثير من الأطفال لا يرون كتابًا غير الكتاب المدرسي، وأحيانًا لا يمتلكونه أصلًا.
في ألمانيا الكتب متوفرة بشكل كبير: تُطرح أحيانًا كتب قديمة أو غير محتاجة على “ركن الإهداء” المجاني في الطرقات، مما يعكس غرسًا ثقافيًا لتداول الكتاب وإعادة استخدامه.
الناس يقرأون في الحدائق والفعاليات: في المدن الألمانية، من الشائع مشاهدتهم يقرؤون في لقاءات ثقافية مفتوحة أو أثناء الاستمتاع بالمقاهي والحدائق.
بالإضافة إلى ذلك، توجد مبدأ “Onleihe” (المكتبة الإلكترونية)، المقدمة عادةً مجانًا، وتتيح استعارة كتب إلكترونية وكتب صوتية عبر تطبيقات الكتب
يتم إنفاق حوالي 12 مليون يورو شهريًا على شراء الكتب في ألمانيا وحدها.
لماذا يجب أن نقرأ؟ ولماذا تُعدّ القراءة مؤشرًا مهمًا؟
القراءة ليست ترفًا ثقافيًا ولا هواية نخبويّة، بل هي شرط حضاري وضرورة معرفية لأي أمة تريد أن تنهض من كبوتها. فالأمم لا تُقاس فقط بعدد مصانعها أو ناطحات سحابها، بل تُقاس بعمق ما يقرأه شعبها، ونوعية ما يفكّر فيه عقلها الجمعي.
القراءة توسّع الإدراك، وتربّي الذائقة، وتُنمّي النقد، وتمنحنا القدرة على التعامل مع التنوّع بدل الخوف منه. وهي أداة لتحرير العقول من الخرافة، وتحصين المجتمعات ضدّ التطرف، ورفع مستوى الوعي العام.
من هنا، أصبحت نِسَب القراءة في الشعوب من أهم مؤشرات التنمية البشرية. فحينما يُقاس مؤشر القراءة في دولة ما، فهو يعكس:
مدى فاعلية نظامها التعليمي.
درجة حرية الفكر والتعبير فيها.
طبيعة الحراك الثقافي والمجتمعي.
ومستقبلها في الاقتصاد القائم على المعرفة.
فكل كتاب نقرؤه هو خطوة صغيرة باتجاه بناء ذاتنا الفردية، ومجتمعنا الحضاري، وأمتنا التي ما زالت تبحث عن مكانها في زمن لا يرحم المتأخرين.
❖ سؤال أخير: من ننتظر؟
هل ننتظر الأمم الأخرى كي تقرأ عنا؟ تنشر لنا؟ تبني لنا مكتبات؟ تترجم أفكارنا؟ تسوّق لكتّابنا؟ نحن أولى بأن نفعل كل ذلك لأنفسنا، إن أردنا أن نكون أمة تقرأ.