لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
من العار أن تمرّ البشرية بتجربة كان فيها الإنسان يُباع ويُشترى كما لو كان شيئًا لا روح فيه. الرقّ ليس مجرد فصلٍ مظلم في كتب التاريخ، بل هو طعنٌ مباشر في صميم الكرامة الإنسانية، وتشويهٌ جوهري لمفهوم "الإنسان" ذاته.
الرقّ، بمعناه التقليدي، هو أن يُسلب الإنسان حريته بالكامل، ويُجرَّد من قراره، ويتحول إلى "شيء" ضمن ممتلكات سيده. أن يُستخدم لا كعامل له حقوق، بل كأداة بلا صوت، بلا كرامة، بلا مستقبل. وما هو أبشع من ممارسة الرق، هو محاولة بعض الأنظمة والفلسفات القديمة تسويغه تحت أي ذرائع .
الفرق بين الوظيفة والرقّ
قد يقول قائل في أيامنا هذه: "أليست الوظائف الحديثة شكلاً من أشكال الرق؟"
لكن هذا القول، رغم ما فيه من احتجاج على استغلال السوق لقيمة الإنسان، يحمل تبسيطًا خطيرًا للمسألة.
الفرق الجوهري بين الرق والعمل المأجور، هو أن الإنسان في الوظيفة ما زال يحتفظ بحريته الجوهرية: يختار، ينتقد، يترك، يرفض. قد يُستغل من حيث الأجر أو الظروف، لكن لا أحد يملك حق "امتلاكه". بينما العبد – في النظام الرقّي – مملوك ملكية تامة، لا يستطيع الزواج دون إذن، ولا السفر، ولا حتى امتلاك شيء لنفسه. الفرق هو بين إنسان يعاني من الظلم، وإنسان لا يُعترف أصلاً بإنسانيته.
الرقّ كمرحلة تطورية… لا مبرر لاستمرارها
ربما يمكن من منظور تطوري تاريخي أن يُفهم وجود الرق في المجتمعات القديمة، كحلٍّ بشري بدائي لضبط القوى والانتصارات، أو لسد حاجات اقتصادية كانت تسود مجتمعات الحروب والغزوات. لكنه فهم لا يعني القبول. التطور الحضاري لا يُقاس بمدى التقدم التقني فحسب، بل بقدرتنا على تحرير الإنسان من قيود الظلم.
لقد كانت البشرية في طفولتها، وربما في مراهقتها التاريخية، تتصرف تصرفات مَرَضيّة. ولكن لا يمكن اليوم، في عصر الوعي وحقوق الإنسان، أن نُبرر الرق بأي شكل. كل نظام أو ثقافة تحاول تبريره أو استعادته – بأي حجة – هي ببساطة تنحدر في درك الوحشية.
لماذا الرقّ غير إنساني جوهريًا؟
لأن الرقّ ينفي أهم خاصية في الإنسان: الحرية.
أن تكون حرًا هو أن تكون مسؤولاً عن قراراتك، عن أفكارك، عن مصيرك. الرق ينزع هذه القدرة. يحوّل الإنسان إلى كائن تابع، إلى ظلٍّ في حياة سيده، إلى مرآة لا تعكس إلا ما يُؤمر به. وهذا نفي تام للكرامة، للعقل، للإرادة.
الرقّ يعلّم الإنسان الخضوع بدلاً من التفكير. يزرع في نفس السيد الاستعلاء، وفي نفس العبد الانكسار. ولا يمكن لمجتمعٍ ينقسم إلى أسياد وعبيد أن يبني حضارة عادلة أو مستقرة.
هل انتهى الرقّ حقًا؟
رغم انتهاء الرقّ رسميًا في معظم دول العالم، إلا أن آثاره لا تزال باقية في صور جديدة:
الاتجار بالبشر
العمالة القسرية
الديكتاتورية المفرطة
الاستعباد الجنسي
العمالة المهاجرة بدون حقوق
لا زلنا نشهد أنماطًا من العبودية المقنّعة، تمارسها أنظمة الاستغلال الاقتصادي والسياسي والاجتماعي. وهنا يظهر التحدي الأخلاقي الحقيقي: أن لا نكتفي بإلغاء الرقّ كقانون، بل أن نُجهض كل نظام يولّد شكلاً من أشكاله.
الختام: من الرق إلى الكرامة
إن مقاومة الرقّ ليست مجرد معركة قانونية، بل معركة فلسفية، أخلاقية، وجودية. يجب أن يُعلّم الطفل منذ نعومة أظفاره أن الإنسان لا يُباع ولا يُشترى. أن الحرية ليست ترفًا، بل هي جوهر ما يجعلنا بشرًا. وأن كل محاولة لإعادة الإنسان إلى قفص "الملكية" – مهما لبست من ثياب ناعمة – هي خيانة للضمير الإنساني.
لقد كان الرقّ يومًا حقيقة. أما اليوم، فيجب أن يكون عارًا نتعهد ألا نكرره أبدًا.