لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
في عالم البحث العلمي، لا تأتي أعظم الاكتشافات دائمًا من وراء الميكروسكوبات أو داخل قاعات المؤتمرات. أحيانًا، تبدأ بثوانٍ من الصمت أمام آلة نسخ.. أو بنظرة فضول بين عقلين يعملان في اتجاهين مختلفين.
هكذا بدأت واحدة من أكثر القصص العلمية إلهامًا في العصر الحديث — ليس في مختبر متقدم، بل في ممر جامعي عادي. لم يكن أحد يتوقع أن لقاءً عابرًا بين باحثة مجتهدة في البيوكيمياء وطبيب مختص في علم المناعة سيقود إلى فتحٍ علمي أنقذ ملايين الأرواح، وأعاد تعريف مفهوم التعاون بين التخصصات.
لم يكن لقاؤهما في نهاية التسعينيات مخططًا، بل كان محض صدفة أمام آلة نسخ المستندات في جامعة بنسلفانيا. كاريكو، الباحثة في البيوكيمياء والتي أفنت عمرها في العمل على الحمض النووي الريبوزي المرسال (mRNA)، لم تكن تجد التقدير أو التمويل الكافي لبحوثها، بينما كان وايزمان، طبيب المناعة، يفتّش عن وسائل جديدة لمحاكاة الجهاز المناعي وتفعيله ضد الفيروسات.
بدا الاثنان كما لو أنهما من كوكبين مختلفين في البداية، لكن ما جمع بينهما كان أعمق من الاهتمامات المشتركة: رؤية علمية متقاطعة، وشغف بتحدي الحدود التقليدية للمعرفة.
لقد أصبح من الواضح اليوم أن أعظم التحديات في العلم – من السرطان إلى تغيّر المناخ – لا يمكن أن تُحل داخل الصوامع التخصصية المغلقة. فالتخصصات العلمية، رغم عمقها، تحمل قيودها أيضًا. وتمامًا كما نحتاج في الهندسة إلى أن يلتقي الفيزيائي بالمبرمج بالمصمم الصناعي، يحتاج الطب الحديث أن يضع عالِم الأحياء الجزيئية يده في يد خبير المناعة، كما فعلت كاريكو ووايزمان.
وقد أظهرت تجارب من هذا النوع أن الأسئلة الكبرى لا تُطرح بشكل دقيق إلا عندما يتقاطع منظوران على الأقل: أحدهما يسأل "لماذا؟"، والآخر يجيب "وكيف؟".
mRNA ثمرة التعاون بين كاريكو ووايزمان لم تكن ورقة بحثية جديدة فحسب، بل كانت الأساس العلمي الذي قامت عليه تقنية لقاحات
التي غيّرت مسار جائحة كوفيد‑19. لقد ساعد تعديل بسيط على الجزيء في تجنب إثارة استجابات مناعية مفرطة، مما مكّن من تطوير لقاح آمن وفعّال في زمن قياسي.
وفي عام 2023، نال العالِمان جائزة نوبل في الطب، لكن الإنجاز الحقيقي لم يكن المجد العلمي، بل ملايين الأرواح التي أنقذت بفضل هذا التعاون.
هذه القصة ليست استثناءً، بل مثال حي على نمط متكرر في تاريخ العلم. أينشتاين ما كان ليضع نظريته النسبية لولا حواراته مع علماء رياضيات من طراز هيرمان مينكوفسكي. وفرانسيس كريك وجيمس واتسون لم يكونا ليكتشفا البنية الحلزونية للحمض النووي دون الاستفادة من صور الأشعة السينية التي التقطتها روزاليند فرانكلين.
إن اللقاء بين العلماء من خلفيات متعددة ليس ترفًا، بل ضرورة في زمن تتشابك فيه المشكلات وتتطلب حلولًا إبداعية تتخطى حدود التخصص.
إذا كنا نريد أن نشهد المزيد من هذه الإنجازات، علينا إعادة هيكلة مؤسساتنا البحثية لتشجّع على التقاطع بدل الانعزال. يجب أن تكون هناك منصات تفاعلية، ومختبرات مشتركة، وتمويلات تشجّع على المشروعات متعددة التخصصات. باختصار، نحن بحاجة إلى ثقافة علمية ترى في الاختلاف فرصة، لا عائقًا.
في جهاز نسخ متواضع، ولدت شراكة أنقذت العالم. وربما تكون الفرصة القادمة في مكتبك، أو في مؤتمر عابر، أو حتى على طاولة قهوة بين فيزيائي وفيلسوف. فدعوا الأبواب مفتوحة، لأن أعظم الاكتشافات لا تبدأ دائمًا في المختبر.. بل في لقاء.