لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
في صلبِ الكائن البشري يسكن سرّ عظيم، لم تزل العقول تتأمل أطيافه: نفخة من روح الإله، تلك التي أشار إليها النصُّ القرآني بقوله: «فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي...» [الحجر: 29].
إنها ليست نفخةً جسدية، بل هي بذرة الوعي، جوهر الإدراك، ومفتاح المعنى.
في خضمّ هذا الكون المادي، يمتاز الإنسان بقدرة فريدة: اللغة. لا مجرد ألفاظ، بل طاقة هائلة لاستحضار المعنى، ولتجسيد المجرد، وتحويل الشعور إلى رمز. "وعلّم آدم الأسماء كلها".. ليست الآية حديثًا لغويًا فحسب، بل إعلانٌ عن بداية النوع الإنساني كنوعٍ واعٍ، قادر على تسمية ما حوله، وتسمية نفسه. فاللغة ليست وسيلة للتواصل فقط، بل أداة لفهم العالم وإعادة تشكيله.
الطفل حين ينطق أول كلماته، لا يعلن عن لسانٍ يتعلم، بل عن عقل بدأ يدرك، ويربط، ويستبصر. الكلمة ليست صوتًا عابرًا، بل خارطة وعي. كل لغة تحوي بُنى عقلية، وسلالات من الإدراك، وشبكات من التصورات. وهذا ما يجعل الترجمة – في أعمق صورها – أقرب إلى نقل عوالم ذهنية كاملة، لا مجرد كلمات.
لكن الأعجب أن هذا البناء الرمزي – الذي تجسده اللغة – لا يقف عند العقل فقط، بل يتغلغل في جسد الإنسان ذاته.
الحمض النووي (DNA)، تلك اللولب الأزلي الصامت، لا يختلف كثيرًا عن لغةٍ مكتوبة برموزٍ كيميائية. أربعةُ حروفٍ فقط (A، T، C، G)، تشكّل بها الطبيعة ملايين التركيبات، لتكوّن الجسد، وتبرمج سلوك الخلية، وتختزن ذاكرة الحياة.
ما الفرق بين “كلمة” تُقال فتوقظ قلبًا، و"رمز" في الجينوم يُفعّل سلوكًا؟ كلاهما بنية رمزية، كلاهما يولد أثرًا من معنى.
والإنسان، وحده من بين سائر الكائنات، من استطاع أن يقرأ الشفرات، ويعيد كتابة الرموز – سواء في اللغة أو في الجينات.
وفي هذا المسار الطويل للوعي، وبعد كل هذه القرون، وصل الإنسان في عصرنا الحالي إلى القدرة على الصناعة، أي: خلق وإعادة خلق ما يتناسب مع حاجاته.
بل تعدينا هذه المرحلة إلى أخرى أعظم: البرمجة والذكاء الاصطناعي.
لقد صنعنا عقلًا صناعيًا يستطيع أن يتحكم بالمصانع والآلات، يحاكي الحياة، بل يكاد يستنسخ بعض خصائصها. فبدلًا من أن تصنع الحياة من الكربون والمادة العضوية، صرنا نصنعها – أو شيئًا قريبًا منها – من السيلكون، والغرافين، ومركّبات أخرى.
ابتكرنا آلات وعقولًا تعمل، وتنتج، وتكتب، وتراجع، وتؤدي الكثير من أدوارنا بنشاط دائم، وتيقظ مستمر، دون ملل، ولا نسيان، ولا كلل، ولا تعب، ولا عصيان_على الأقل.. حتى هذه اللحظة.
نحن اليوم نعرف كيف نُبرمج، وكيف نصنع الآلات، وننقش التعليمات في شرائح السيليكون. لكننا – للمفارقة – ما زلنا نجهل كيف بدأت الحياة العضوية الأولى، وكيف "قررت" – أو قُرِّر لها – أن تكتب تعاليمها وتخزن ذاكرتها على شيفرة من أربع حروف تُعرف بالـ DNA.
هذا القرار العجيب، بأن تُبنى الحياة على "لغة"، ليس أمرًا بسيطًا أو عفويًا.. بل هو لغزٌ يتجاوز حدود البيولوجيا، ويقف على تخوم الميتافيزيقا.
من الذي وضع هذه البنية الرمزية في لُبّ الخلية؟ ومن الذي علّم الجزيئات أن تتفاهم، وأن تحفظ وصايا الحياة في طيّات الحمض النووي؟
إنها ألغاز ربما تنتمي إلى مستوى أعلى من قدرتنا الحالية على الفهم، وربما – كما في كل رحلة إنسانية – سيأتي يوم نستطيع فيه أن نقرأ بداية الكتاب كما قرأنا فصوله اللاحقة.
فالمستقبل لا يزال يحمل لنا الكثير.. أو لعلنا نحن من نحمل له الكثير، كجنسٍ خلاقٍ، مبدعٍ، دائم الإنتاج والابتكار.
لكن المشكلة – كما في كل سردية بشرية – تكمن في ذلك الجزء المظلم من الإنسان: الصراع.
هو الوجه الآخر لعبقريتنا، وسر تعثرنا. وأخشى، كما يخشى كثيرون، أن يُقطَع هذا الطريق المضيء نحو الاكتشاف والتصنيع بسبب غلبة الصراع على التعاون، والهيمنة على الحكمة، والتدمير على البناء.
20 يوليو 2025