لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
استيقظتُ يومها وأنا أتصبّب عرقًا، رغم أن الشتاء في برلين كان في ذروته. الساعة الثامنة والنصف صباحًا. هاتف ممدد بجواري كجثة، يصرخ منبّهه منذ ربع ساعة. نظرت إليه، ثم إلى السقف المكسوّ بضوء رماديّ باهت.. لا جديد.
عدلتُ جلستي على السرير الخشبي في شقتي بحيّ "نويكولن"، وفتحت تطبيق البنك كمن يفتح بريدًا إلكترونيًا بائسًا، فإذا بي أتجمد.
الرصيد: 389,920.00 يورو.
رمشت مرة. مرتين. ثم أعدت تحديث الصفحة، فقط لأتأكد من أنني لست ضحية خدعة بصرية.
لكني لست من الذين يفرحون سريعًا.. أو يثقون سريعًا.
✦ ✦ ✦
ظهر رقم غريب على شاشة هاتفي، رقم ألماني، لكن ليس في قائمة معارفي. تجاهلته. ثم عاد للاتصال. تجاهلته مرة أخرى. وفي المرة الرابعة، جاءتني رسالة:
"عزيزي السيد ابراهيم،
أنا رومان فيشر، مدير الحسابات التنفيذية بشركة إيزيغون AG للتقنيات الحيوية.
وصلنا تحويل مالي كبير باسمك إلى حسابك البنكي نتيجة خطأ تقني داخلي.
نرجو أن تحضر بنفسك إلى مكتبنا في الطابق 47 من برج ألكسندر ببرلين، الساعة 11:00 صباحًا بالضبط.
سيكون من دواعي سروري أن أشرح لك التفاصيل.
مع كامل التقدير."
شعرتُ للحظة أنني أمام سيناريو فيلم من إنتاج نيتفلكس، وليس رسالة حقيقية. لكن الفضول كان أقوى من الخوف.
✦ ✦ ✦
وصلت إلى البرج قبل الموعد بدقائق. رجل أصلع، يرتدي بذلة رمادية، استقبلني عند المصعد. قال لي: "أنت السيد ابراهيم اتبعني."
صعدنا في صمت، حتى فتحت الأبواب على ممر زجاجي مذهل. ثم إلى مكتب أنيق. جلس الرجل خلف مكتبه، وأشار لي بالجلوس.
– "تفضل، هل تشرب قهوة أم شاي أم شيء آخر؟"
– "قهوة، من فضلك."
صبّ لنفسه كأسًا من مشروب داكن اللون، وشربه دفعة واحدة. ثم قال:
– "أستاذ ابراهيم.. هناك خطأ حدث. مبلغ يقارب 390 ألف يورو تم تحويله لحسابك، عوضًا عن حساب عميل آخر. خطأ في رقم واحد فقط."
ابتلعت ريقي.
– "هل هذا قانوني؟ أقصد.. هل يمكنني الاحتفاظ به؟"
ابتسم وقال:
– "من الناحية القانونية.. نعم. لا يمكننا إجبارك. لكن من الناحية الأخلاقية.. نحن نفضّل الحل الودي."
ثم وضع يده في جيبه، وأخرج شيكًا مطبوعًا.
– "خذ 25 بالمئة من المبلغ، أي حوالي 97 ألف يورو. ووقّع على هذه الورقة بإعادة الباقي."
لم أحتج وقتًا طويلًا. أي شخص مكاني كان سيفعل الشيء نفسه. وقّعت، وشكرته، وأرسلت التحويل عبر التطبيق. خرجت وأنا أتنفس كما لو أنني عبرت بوابة من عالم إلى آخر.
✦ ✦ ✦
قررت سحب مبلغ 20 ألف يورو نقدًا، فقط لأشعر أنني لم أكن أحلم. حصلت على المال، ووضعته في حقيبة جلدية أنيقة.
وصلتُ المنزل، وضغطت على زر المصعد، ثم دخلت شقتي.
وفجأة..
أصوات غناء. تلك الأوكرانية الغريبة التي تسكن فوقي، بدأت مجددًا في عرضها الموسيقي الخاص. أغاني شعبية، صراخ، ضحك، رقص.. وكأنها تحيي حفلة رأس السنة في شقتها الصغيرة.
جلستُ على الأريكة، أراقب الحقيبة المليئة باليورو، بينما تتردد كلمات أغنيتها من فوق رأسي:
"الحياة لا تُشترى بالمال، بل تُسرق بالصوت.."
صرختُ بأعلى صوتي: "يكفي! يكفي!"
لكنها لم تسمع، أو لم ترد أن تسمع. شعرت فجأة أن المال الذي بين يدي لا يساوي شيئًا، طالما أن هذا الصوت يتردد فوقي كل ليلة.
وبينما كنت أستلقي على الكنبة.. أغمضت عينيّ، ثم..
✦ ✦ ✦
استيقظت. وجدت نفسي مجددًا في فراشي على نفس السرير، والهاتف بجانبي يصدر إنذاره الممل.
فتحت تطبيق البنك. الرصيد: 530 يورو فقط.
وما من برج. لا طابق 47. لا رومان فيشر. لا حقيبة. سوى صوت عالي من فوق، تلك الأغنية الأوكرانية القديمة تتسلل من السقف:
"كل الأحلام تبدأ بصوت.. وتنتهي بصدى."