لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
يُعدّ التعليم حجر الأساس في بناء الإنسان والمجتمع، غير أن جوهره يختلف اختلافًا جذريًا بين الأمم. ففي حين ينظر بعضهم إلى التعليم بوصفه عملية تحرير للعقل وتنمية للقدرات النقدية والإبداعية، تراه مجتمعات أخرى مجرد وسيلة للحصول على الشهادات والتدرج الوظيفي. هذا التباين في الفلسفة التعليمية لا ينعكس فقط على مخرجات المدارس والجامعات، بل يتجسد في صورة الإنسان ذاته: طريقة تفكيره، قدرته على اتخاذ القرار، ووعيه بدوره في المجتمع.
في الأنظمة التعليمية المتقدمة (كالفنلندية، الكندية، واليابانية)، ينطلق التعليم من مبدأ تمكين المتعلم لا ملء ذاكرته. يُنظر إلى الطالب ككائن مفكر قادر على الاكتشاف، فيُدرّب منذ الصغر على مهارات التفكير النقدي، البحث الذاتي، التعاون، واحترام الاختلاف.
تُدرّس العلوم لا كحقائق جامدة، بل كمنظومات مناهجية قابلة للنقاش والاختبار. حتى في المراحل المبكرة، يُشجَّع التلميذ على السؤال لا على الصمت، وعلى التجريب لا على التلقين.
أما في كثير من الدول النامية، فيسود نظام التعليم التلقيني، حيث تُختزل العملية التعليمية في الحفظ والاسترجاع. تُقاس كفاءة الطالب بقدرته على تكرار ما قاله المعلم، لا بقدرته على توليد الأفكار. يَغيب عنصر الإبداع ليحلّ محلّه الخوف من الخطأ، وتتحول المدرسة إلى معمل لإنتاج الطاعة لا التفكير.
يرتبط اختلاف الفلسفتين بجذور ثقافية وتاريخية وسياسية:
في الدول المتقدمة، نشأت فلسفة التعليم من رحم الفكر الإنساني الحديث، الذي يضع الفرد والعقل والتجريب في مركز العملية المعرفية. التربية هناك تُبنى على قيم الحرية، التساؤل، والمواطنة.
في الدول المتأخرة تربويًا، ما زال التعليم محكومًا بإرث بيروقراطي وسلطوي، يرى في المدرسة أداة للضبط الاجتماعي أكثر من كونها فضاءً للنمو العقلي. تتغلب فيها فكرة “المعلم العارف والطالب المتلقي”، وهو نموذج يعكس في جوهره صورة الحاكم والمحكوم.
يُظهر الواقع أن الإنفاق على التعليم أحد أبرز الفروق بين النظامين. فبينما تنفق الدول الاسكندنافية مثلًا ما يقارب 6–7% من الناتج المحلي الإجمالي على التعليم، لا يتجاوز الإنفاق في بعض الدول العربية 2–3%، وغالبًا يذهب معظمه إلى الأجور لا إلى تطوير المناهج والبنية التحتية أو تدريب المعلمين.
أما إعداد المعلمين في الأنظمة المتقدمة فيمر بمراحل دقيقة:
برامج جامعية متخصصة تمتد من أربع إلى خمس سنوات.
تدريب عملي إلزامي في المدارس قبل نيل الرخصة.
تقييم دوري مستمر لمستوى الأداء المهني والمعرفي.
في المقابل، في كثير من الأنظمة التقليدية، يُعيَّن المعلم دون تدريب كافٍ، وغالبًا ما تكون مهنة التعليم ملاذًا وظيفيًا لا اختيارًا شغوفًا. ضعف الإعداد هذا ينعكس على طريقة التدريس، وعلى انعدام الحافز للتجديد والابتكار.
1. على المدى القصير:
الأنظمة التلقينية قد تُخرج طلابًا متفوقين في الامتحانات، لكن دون مهارات حقيقية في التحليل أو حل المشكلات.
أما الأنظمة القائمة على التفكير النقدي، فتُظهر نتائج أبطأ في البداية، لكنها تُكسب الطالب أدوات عقلية متينة تُمكنه من التعلم الذاتي مدى الحياة.
2. على المدى البعيد:
المجتمعات ذات التعليم التلقيني تُعاني من جمود فكري، بطالة مقنّعة، وضعف في الإنتاج العلمي والتكنولوجي.
بينما تنتج الأنظمة الحديثة مواطنين مبادرين، مبدعين، وفاعلين اقتصاديًا. فالمخرجات لا تُقاس بعدد الشهادات بل بقدرة المجتمع على التكيف مع المتغيرات وصنع المعرفة.
تحسين التعليم لا يتحقق بتغيير المناهج فقط، بل بتغيير فلسفة النظام كله. يمكن رسم ملامح الإصلاح عبر:
تحويل التعليم من التلقين إلى التعلم النشط:
عبر دمج التجارب العملية والمشاريع الجماعية في كل مادة دراسية.
إعادة تأهيل المعلم:
بإعطائه دور الميسر والمحفز لا الناقل للمعلومات، مع حوافز مالية ومعنوية مرتبطة بالأداء.
تحديث المناهج وتحريرها من المركزية:
بحيث تُدمج المهارات الحياتية، التفكير النقدي، والذكاء العاطفي ضمن المحتوى التعليمي.
التحول الرقمي في التعليم:
لتوظيف التكنولوجيا في التعلم الذاتي، وتحفيز الإبداع من خلال منصات تفاعلية.
إشراك المجتمع والأسرة:
لأن بناء جيل مفكر لا يتم داخل جدران المدرسة فقط، بل عبر منظومة قيمية تشترك فيها الأسرة والإعلام والسياسات العامة.
الفارق بين التعليم الذي يصنع العقول والتعليم الذي يستهلكها ليس في عدد الدروس أو الكتب، بل في الروح التي تُدار بها العملية التعليمية.
حين يتعلم الطالب كيف يفكر لا ماذا يفكر، وحين يتحول المعلم من سلطة إلى قدوة، تبدأ رحلة الأمم نحو النهوض الحقيقي.
أما التلقين، فمهما زيّنوه بالامتحانات والشهادات، فلن ينتج إلا أجيالًا تحفظ العالم ولا تفهمه.
25.10.2025