لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
تبدو الحياة، للوهلة الأولى، ساحةً مكتظةً بالعقبات؛ بعضها يعبر كعابر سبيل، وبعضها يرسخ في أعماقنا كشوكةٍ في خاصرة الروح. لكن السؤال الجوهري ليس: "كم عدد مشكلاتنا؟"، بل: "أيها حقيقي وأيها مجرد ظلالٍ من صنع عقولنا؟".
يرى الفيلسوف الرواقي إبكتيتوس أن "الناس لا تزعجهم الأشياء، بل آراؤهم عنها". بهذه العبارة يزيح الستار عن حقيقةٍ عميقة: كثير مما نعتبره "مشكلة" ليس سوى انعكاسٍ لتفسير ذهني، لا حقيقةً قائمة بذاتها.
تأمل شابًا ينتظر جوابًا على رسالة أرسلها لصديق. تمر الساعات، ويغيب الرد. يبدأ العقل في نسج سيناريوهات: "هل أخطأت في حقه؟ هل يتعمد تجاهلي؟ هل انتهت صداقتنا؟". تتراكم المخاوف وتتصاعد المشاعر، حتى يأتي الرد أخيرًا، ويكتشف أن الصديق كان في مكان بلا شبكة. هنا يتضح أن المشكلة لم تكن في غياب الصديق، بل في القصص التي اختلقها العقل.
العقل البشري آلة تحليل لا تهدأ، لكنه أحيانًا يبالغ في التحليل، فيضخم الأحداث، ويعمم المشاعر، ويقع في فخ أوهامه. هكذا تتحول التفاصيل الصغيرة إلى "مشاكل" ضخمة، لا وجود لها خارج حدود أذهاننا.
دعونا نميّز بين نوعين من المشاكل:
مشاكل حقيقية: كمرضٍ مفاجئ، أو فقدان عمل، أو أزمة اقتصادية. هذه وقائع ملموسة، يمكن قياس أثرها والتعامل مع نتائجها.
مشاكل متوهمة: كخوفٍ من رأي الآخرين، أو قلقٍ من فشلٍ لم يحدث، أو حزنٍ على توقعات لم تتحقق. هذه تنبع من الداخل، وتتغذى على الخيال والقلق.
يقول عالم النفس ألبرت إليس إن معظم معاناتنا لا تنبع من الواقع، بل من "الحوار الداخلي" الذي نردده لأنفسنا. نحن لا نرى الأمور كما هي، بل كما يلوّنها عقلنا بانفعالاته وتحيزاته.
منذ نعومة أظفارنا، يُلقّننا المجتمع أن "الفشل عار"، و"الخطأ ضعف"، و"الدموع هزيمة". نكبر ونحن نخجل من مشاعرنا، نخفي أزماتنا، ونتظاهر بالصلابة. هكذا، نخشى مواجهة مشاكلنا، ونحيطها بهالةٍ من الوهم تعقّدها أكثر.
تزيد وسائل التواصل الاجتماعي الطين بلة؛ إذ تعرض لنا صورًا لحياةٍ مثالية زائفة، فنقارن أنفسنا بها ونشعر بالنقص، ونحوّل تفاصيلنا اليومية إلى "أزمات وجودية".
التحرر يبدأ بالوعي. حين ندرك أن مشاعرنا ليست دائمًا مرآةً صادقة للواقع، نبدأ في مساءلة أفكارنا:
هل هذه المشكلة حقيقية فعلاً؟
هل هناك دليل واضح عليها؟
أم أنني أراها من خلال عدسة الخوف أو الغضب أو التسرع؟
التأمل، كما في الفلسفة البوذية، وسيلة فعّالة لاستعادة الحضور وفك الاشتباك مع الأفكار المزعجة. أن تجلس مع نفسك، بلا حكم، وتراقب كيف يصنع العقل القصص، هو الخطوة الأولى نحو التحرر من وهم "المشكلة".
ربما ما تسميه "أزمة" ليس إلا مرحلة عابرة.
وربما ما تراه "مأزقًا" هو تدريب على النضج.
وربما، فقط ربما، ما تعتبره "مشكلة".. لم يكن يومًا سوى وهمٍ في خيالك.
راقب أفكارك جيدًا؛ فقد تكون هي العقدة الوحيدة التي تستحق الحل.