لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
من اللحظة التي نفتح فيها أعيننا إلى العالم، يكون وعينا هو مرآتنا الوحيدة للحقيقة. لكن من أين جاء هذا الوعي؟ ولماذا يختفي عند النوم العميق أو الغيبوبة أو الوفاة؟ وهل هو "منتج عصبي" أم "كائن منفصل"؟
هنا نواجه السؤال الأقدم في الفلسفة والعلوم:
هل الوعي ناتج عن الدماغ؟ أم أن الدماغ مجرد مرسل واستقبال لإشارات الوعي من مصدر آخر؟
في الطب وعلم الأعصاب، يُفترض أن الوعي ناتج عن تفاعلات كهروكيميائية في الدماغ. لكن لحظات الاقتراب من الموت (NDEs) تقدم قصصًا مثيرة:
أناس أعلن موتهم سريريًا، لكنهم عادوا وهم يتحدثون عن رؤى وتجارب خارج الجسد، وشعور بالسكون العميق، ومشاهد ضوئية تشبه الحلم.
فهل تكون الوفاة لحظة انفصال الوعي عن الدماغ؟ وهل ذلك يشبه الاستيقاظ من حلم ثقيل؟
الحلم، كما تصفه علوم النوم، هو حالة من نشاط الدماغ رغم "تعليق" الجسد. أنت تعيش مشاهد وتتحرك وتشعر، لكن دون جسد حقيقي.
الاستيقاظ يشبه العودة المفاجئة إلى الجسد، وغالبًا ما تنسى الحلم خلال دقائق.
والآن، دعنا نتخيل هذا:
إذا كانت الوفاة شبيهة بالحلم.. فربما هي "استيقاظ" إلى حياة أخرى؟
كما أن الحالم لا يشعر بأنه داخل "وهم"، كذلك قد نكون الآن في مرحلة ما من مراحل الوعي، و"الموت" هو فقط لحظة الانتقال.
علماء مثل توماس ميتزنجر وديفيد تشالمرز يناقشون فكرة أن الواقع قد يكون محاكاة معرفية، وأن الأحلام لا تقل "حقيقية" عن الواقع من حيث التجربة الداخلية.
من أفلاطون إلى بوذا، ومن ابن عربي إلى نيتشه، تناول الفلاسفة فكرة أن هذه الحياة قد لا تكون إلا مرحلة في سلسلة أكبر.
ابن عربي يقول:
"الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا."
وهنا لا يقصد فقط الموت الجسدي، بل موت الهوية الزائفة. الوعي عنده ليس شيء نمتلكه، بل نحن أنفسنا الوعي.
في البوذية، "التنوير" هو استيقاظ من وهم "الأنا"، وفي الفكر المسيحي واليهودي، الموت هو "العودة" إلى الأصل، حيث لا ألم ولا زمان.
أما التصوف الإسلامي، فيرى أن الموت هو انتقال من "الحجاب" إلى "الكشف"، ومن "العين الظاهرة" إلى "عين الحقيقة".
من الناحية البيولوجية، الموت ليس لحظة، بل عملية.
يبدأ توقف القلب، ثم نقص الأوكسجين عن الدماغ
خلال ثوانٍ، يبدأ الدماغ بإطلاق شحنة ضخمة من النشاط الكهربائي
يعتقد بعض الباحثين (مثل دراسات جامعة ميتشيغن) أن هذه الشحنة تشبه نشاط الحلم أو اليقظة المركزة
هل هذه "الومضة الأخيرة" هي حلم؟ استدعاء سريع للذكريات؟ أم لحظة انتقال وعي إلى واقع جديد؟
لا أحد يعلم يقينًا، لكننا نعلم أن آخر ما يبقى حيًا في دماغ الإنسان هو الذاكرة العاطفية، ولهذا كثير ممن عادوا من الغيبوبة قالوا إنهم "مرّ عليهم شريط حياتهم".
تمامًا كما لا يبقى من الحلم سوى شعور غامض أو ذكرى باهتة، يبدو أن الموت لا يأخذ منا إلا الجسد، أما الذكرى (سواء كانت في ذاكرة شخصية أو كونية)، فهي التي تبقى.
السؤال هو:
هل سيكون الحلم الذي نغادره عند الموت مجرد ذكرى؟
أم سيكون هو الماضي الأول لحياة أخرى تبدأ بمجرد أن نستيقظ؟
إذا كانت لحظة الموت مجرد لحظة استيقاظ، فربما لا يجب أن نخافها.
وإذا كان وعينا لا يُفنى، بل يتحول، فربما نكون فقط نائمين في حلم طويل الآن.
وإذا صح ذلك، فإن كل ما نخافه قد لا يكون أكثر من كابوس مؤقت في حلم الوعي.
قال نيتشه مرة:
"نحن نستيقظ في أنفسنا لحظة الموت، وكأننا كنا نحلم أننا أحياء."