لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
ليست الحروب مجرد جولات عنف وصراع مسلح؛ بل هي اختبارات قاسية لقدرة المجتمعات على الصمود، ولأعماقها الفكرية والثقافية. وفي كل صراع، يتجاوز الدمار حدود البنى التحتية إلى ما هو أخطر: الإنسان، والعقل، والذاكرة الجمعية. إن أحد أعمق آثار الحروب يتمثل في ضياع الرأسمال الفكري، من أساتذة وعلماء وباحثين ومؤسسات تعليمية. وإذا كانت الدول قادرة – بجهود محلية أو دولية – على إعادة بناء المدارس والجامعات، فهل تستطيع بنفس السهولة إعادة إنتاج العقول والخبرات؟
تشير تقارير الأمم المتحدة واليونسكو إلى أن التعليم غالبًا ما يكون هدفًا مباشرًا أو غير مباشر في مناطق النزاع، سواء من خلال تدمير المدارس والجامعات، أو تهجير الطلاب والمعلمين، أو استهداف الأكاديميين أنفسهم. وتُعد الهجمات المتعمدة على قطاع التعليم – وفق اتفاقيات جنيف والقانون الدولي الإنساني – جرائم حرب، نظرًا لخطورتها البالغة على حاضر ومستقبل الشعوب.
لا يتعلق الأمر فقط بانقطاع الدراسة أو تدني مستويات التحصيل، بل بانهيار كامل لسلاسل إنتاج المعرفة. فحين تُغتال الكفاءات الأكاديمية، أو تُدفع للهجرة، أو تُجبر على الصمت، تنطفئ مصابيح كان يمكن أن تضيء الطريق أمام أجيال قادمة.
يمثل الرأسمال الفكري – أي المخزون المعرفي والمهاري والبحثي الذي يمتلكه الأفراد والمؤسسات – أحد أهم أعمدة التنمية المستدامة. وفي ظل الحروب، يفقد المجتمع هذا الرصيد بصمت: يُهاجر الباحثون، تتفكك المؤسسات الأكاديمية، تُصادر المكتبات، تُدمّر المختبرات، وتُنسى المشاريع البحثية.
يؤكد باحثو التنمية أن إعادة بناء البنية التحتية بعد الحرب قد يستغرق سنوات، أما تعويض العقول والخبرات فيحتاج إلى عقود – إن لم يكن أكثر. بل إن بعض الدول لا تستعيد مكانتها العلمية أبدًا بعد الحروب، كما تُظهر دراسات حالة في العراق وسوريا ولبنان واليمن.
ما إن تضع الحروب أوزارها، حتى تتجه الأنظار إلى إعادة الإعمار المادي: الجسور، المصانع، الأبنية. لكن من النادر أن تتصدر برامج "إعادة الإعمار الأكاديمي" أولويات الدول أو الجهات المانحة. وهذا قصور استراتيجي بالغ الخطورة، لأن غياب الرأسمال الفكري يعوق جميع عمليات النهوض الأخرى.
السؤال الجوهري هنا: كيف يمكن ضمان استمرارية التعليم والبحث العلمي في فترات النزاع؟ وكيف نحمي الإرث العلمي والأكاديمي من التبديد والانقطاع؟ وهل ثمة نماذج ناجحة يمكن للعالم العربي الاستفادة منها؟
هناك تجارب دولية رائدة في حماية التعليم خلال النزاعات، من أبرزها مبادرات "الجامعات في المنفى" (Universities in Exile)، وبرامج الأمم المتحدة لحماية العلماء اللاجئين، وكذلك جهود بعض الجامعات الأوروبية والكندية التي احتضنت أكاديميين من الشرق الأوسط. على المستوى العربي، هناك جهود متناثرة لكنها تفتقر إلى التنسيق، مثل دعم الجامعات في الشتات أو توفير منح للطلبة المتضررين.
لكي تصبح هذه الجهود أكثر فاعلية، هناك حاجة إلى:
تأسيس شبكة إقليمية عربية لحماية الأكاديميين والعقول المهاجرة.
توثيق وإعادة نشر الإنتاج العلمي المعرض للفقد أو الضياع.
إطلاق بنوك رقمية للمعرفة تحفظ التراث الأكاديمي والمؤسسي.
تعزيز السياسات التعليمية في أوقات الطوارئ، بدمج التعليم الرقمي والمرن.
إنشاء "جامعات متنقلة" أو منصات رقمية متكاملة يمكن نقلها حيث الحاجة.
خامسًا: الاستشراف المستقبلي: نحو منظومة علمية مقاومة للصدمات
في ضوء تكرار النزاعات في المنطقة، لا بد من بناء منظومة علمية مرنة، قادرة على التكيف والصمود أمام الأزمات. هذا يتطلب:
تشبيك المؤسسات البحثية والتعليمية عبر الحدود الوطنية.
الاستثمار في التعليم المفتوح والرقمي، مع ضمان الجودة والتوثيق.
دعم مراكز التفكير (Think Tanks) لرصد آثار الحرب على المعرفة.
تكوين تحالفات دولية لحماية التعليم بوصفه "مرفقًا إنسانيًا" لا يجوز المساس به.
في نهاية المطاف، فإن أكبر خسائر الحرب ليست في الأنقاض التي تتركها، بل في العقول التي تغيب، والأفكار التي تُقمع، والأجيال التي تُحرم من حقها في المعرفة. وما لم ننتقل من منطق "إعادة بناء الجدران" إلى منطق "إعادة بناء الإنسان"، فإننا سنعيد إنتاج الدمار بثوب جديد.
إن حماية الرأسمال الفكري، والتعليم، والمؤسسات العلمية، ليست ترفًا أكاديميًا، بل ضرورة وجودية لمستقبل العالم العربي.