لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
منذ لحظة وصولي إلى هنا، لم أكفّ عن التأمل في تفاصيل الحياة اليومية، وطريقة تعامل الناس مع مشكلاتهم، وآليات حل الأزمات التي تواجههم. وجدت أن أغلب ما نعانيه في مجتمعاتنا العربية – وخاصة في اليمن – قد جرى هنا تجاوزه بطرق بسيطة وفعالة جعلت الحياة أسهل وأكثر كرامة للإنسان.
في مسألة الصحة، يوجد نظام تأمين طبي إلزامي لكل فرد، عبارة عن اشتراك شهري بسيط يقتطع من راتبك، لتتكفل الدولة بباقي التكاليف: المعاينات، الفحوصات، العمليات، الإقامة في المستشفى، وثمن الأدوية، مع رسوم رمزية لا تذكر. وإذا كنت بلا دخل، تتكفل الدولة بدفع الاشتراك عنك بالكامل. بينما في بلادنا كثيرًا ما يتحول المرض إلى كارثة مالية قد تودي بالأسرة كلها للفقر.
في الإسكان، الإيجار يُدفع من راتبك، لكن إذا لم يكفِ راتبك لتسديد الإيجار وتوفير حياة كريمة، تدفع الدولة الفارق لتضمن لك ولأسرتك استقرارًا يليق بالبشر. أما في بلداننا، فيُترك المواطن نهبًا لأسعار الإيجارات المتصاعدة بلا أي حماية أو دعم.
أما المواصلات العامة، فهناك باصات وقطارات مريحة متوفرة باشتراك شهري أو سنوي منخفض، ومع خصومات كبيرة للفئات الأقل دخلًا قد تصل إلى النصف أو أكثر. في حين يعاني المواطن في دولنا من تنقلات مرهقة بين طرقات متهالكة ووسائل نقل عشوائية غير آمنة.
في مجال العمل والتعليم، تلتزم الدولة بتعليمك مجانًا حتى تحصل على عمل، وتتكفل بمصاريفك ومصاريف أسرتك طوال فترة البحث. وحتى اللغة، إذا كنت قادمًا جديدًا، تدفع الدولة تكاليف دراستها لك وتساعدك في الاندماج بسوق العمل. وفي المقابل، يعاني شبابنا في الدول العربية من انعدام الفرص والبطالة المزمنة، ويُتركون بلا تأهيل أو دعم.
المعاملات الحكومية هنا تسير بالأرقام وبالدور، بوضوح وشفافية، فلا مجال للوساطة أو الرشوة أو التأخير. كل موظف يعرف ما عليه من واجبات ويؤديها بدقة. بينما في مجتمعاتنا كثيرًا ما ترتبط الإجراءات بالمحسوبية والوساطات وتعقيدات بلا طائل.
الخدمات الأساسية مثل المياه النظيفة، الكهرباء، الإنترنت، كلها متوفرة طوال العام بجودة عالية وأسعار واضحة، مع تنافس الشركات لتقديم أفضل الخدمات بأقل التكاليف. في حين نعاني في بلادنا من انقطاعات مستمرة، ورداءة في الخدمات وغياب الرقابة.
في القضاء والقوانين، تسهر الدولة لحمايتك من أي ظلم، سواء كان من شخص أو جهة رسمية. القوانين واضحة ومحايدة تطبق على الجميع. أما في بيئتنا العربية، فكثيرًا ما يصبح الضعيف فريسة لمن يملك النفوذ.
أما الأطفال، فينعمون بأرقى التعليم المجاني الآمن، ويستطيعون التنقل في الشوارع بأمان بفضل قوانين المرور الصارمة التي تضمن حمايتهم، بعكس ما يعانيه أطفالنا من مدارس متداعية وشوارع بلا أمان.
ومع كل هذا، يواجه القادمون الجدد إلى المجتمعات الغربية صعوبات حقيقية في بداية اندماجهم، أبرزها صعوبات التكيف مع اللغة الجديدة، والعادات المختلفة، والثقافة المغايرة، وأساليب العيش التي لم يألفوها من قبل. هذه التحديات يتذمر منها معظم الوافدين، في حين أن المواطنين المقيمين هنا منذ أجيال يكادون لا يشعرون بها؛ إذ اعتادوا عليها حتى صارت جزءًا طبيعيًا من حياتهم.
أما ما يُثار في الإعلام عن العنصرية في هذه البلدان، فهو في الحقيقة يضخَّم لأن المجتمع هنا لا يتسامح مع العنصرية، لذلك تُعد كل حادثة عنصرية أمرًا جللًا يجري النقاش حوله بشفافية. ومع ذلك، فإن مستوى العنصرية هنا – مهما وُجد – لا يقارن بما نعانيه في مجتمعاتنا العربية، حيث تبدأ العنصرية معنا منذ نعومة أظافرنا وترافقنا حتى الممات: عنصرية مناطقية، سلالية، جهوية، طبقية.. جميعها متجذرة في أوطاننا، بينما هنا يضمن لك القانون حقوقك كاملة، ويحميك من أي انتهاك مثلما يحمي المواطنين الأصليين دون تمييز.
لقد شبّهتُ هذا يومًا بما يقوله أهل صنعاء عندما يصفون الجو بـ"الحَر" أو "الحرارة المرتفعة"، بينما لا يقارن ذلك بحرارة حضرموت أو المخا أو المناطق الصحراوية؛ الاسم واحد لكن الواقع مختلف. كذلك هي العنصرية: ما يضج به الإعلام هنا لا يقارن بحجم العنصرية في مجتمعاتنا.
وهذا ما يؤكد أن القانون هنا هو الحامي الحقيقي؛ فهو يضمن لك حقوقك كاملة، ويصون كرامتك، ويضعك على قدم المساواة مع أي شخص آخر. هل هؤلاء ملائكة ونحن شياطين؟ بالطبع لا. لكنهم ببساطة نجحوا في جعل القيم الإنسانية مثل العدالة، المساواة، الشفافية، النزاهة، والكفاءة أساسًا لإدارة مجتمعاتهم، بعيدًا عن المحسوبيات والمؤثرات السلبية.
أما الخدمات، فهي ليست مجانية بالكامل؛ إذ تأخذ الدولة نسبة من دخلك تسمى ضريبة الدخل، لكنها تعود إليك أضعافًا مضاعفة: في العلاج، التعليم، المواصلات، البنية التحتية، وضمان الحياة الكريمة عند التعرض لأي طارئ كالمرض أو فقدان العمل. الفارق الجوهري هنا أن المواطن يرى بعينه أثر الضرائب في شوارع نظيفة، وخدمات متكاملة، ونظام قضائي يحمي حقوقه. لا تُهدر أموال الناس ولا تُسرق، بل تُصرف بشفافية تامة لصالح الجميع.
قد يتساءل البعض: لماذا تظهر المشكلات الغربية في الإعلام؟ السبب أنهم لا يخفون مشكلاتهم، ولا يخشون الاعتراف بها، بل يعالجونها بمشاركة المجتمع، دون قمع أو خوف من النقد. بينما في مجتمعاتنا يُخشى الحديث عن المشكلات، وتُطمس الحقائق، ويُرهب الناس عن المطالبة بحقوقهم.
إن ما نراه هنا يؤكد أن الحياة يمكن أن تكون أسهل بكثير في بلداننا لو التزمنا بقيمنا الجميلة التي نعرفها جيدًا؛ قيم العدالة التي نص عليها ديننا الحنيف، وقوانيننا، ومنطقنا السليم. ما الذي يمنعنا من التطبيق؟ هذا سؤال موجَّه لكل شخص – سواء كان مسؤولًا أو مواطنًا عاديًا – لأن الإجابة عليه بصدق وتطبيقها عمليًا كفيلة بحل 90% من مشاكلنا المستعصية.
سؤال مفتوح للتأمل:
إذا كنا نعرف ما هو صواب ونؤمن به.. فلماذا تختلف أفعالنا عن أقوالنا؟