لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
في كثير من المجتمعات الهشة، تتكرر مأساة غريبة لكنها مألوفة: تُحمّل النتائج تبعات الفشل، بينما تُبرّأ الأسباب من أي مسؤولية. يُلام الطالب لأنه لا يُجيد القراءة، ويُعاقب المواطن لأنه لا يعرف حقوقه، وتُنتقد المرأة لأنها خرجت عن “المألوف” في لباسها أو سلوكها، ويُتهم الشاب بالكسل والانحراف لأنه لا يعمل أو لا يبادر. لكن أحدًا لا يتوقف ليسأل: من الذي صنع بيئة الفشل هذه؟ من أغلق أبواب المعرفة، ومن صادر الخيارات، ومن جعل الحشمة ترفًا لا تقدر عليه من تطاردها الحاجة؟ في كل هذه الحالات، تصبح النتيجة – أي السلوك الظاهري – شماعة تُعلّق عليها كل المآسي، بينما الأسباب الحقيقية تُخفى، أو تُمنح حصانة ضمنية بفعل العادة والخوف.
في اليمن، كأنموذج صارخ لمجتمع منكوب بأزماته المتراكبة، تبدو هذه المفارقة في أشد تجلياتها. فبينما تُثار في المجالس، وفي الإعلام، بل وحتى في المساجد، خطب طويلة عن "تدهور الأخلاق"، و"الجهل العام"، و"اللامبالاة" وغيرها من هذه التهم الجاهزة، تغيب المحاسبة الفعلية للمؤسسات التي خلقت هذا المناخ من الانهيار. إن الطالب الذي يعجز عن التعبير السليم ليس هو من قرر إغلاق المدارس أو تدمير البنية التعليمية، والمرأة التي تضطر إلى العمل في بيئة غير لائقة لم تختر أن تُحاصر بين الجوع والعار، والمواطن الذي لا يعرف من يحكمه أو من يسرق ثروته ليس من قطع الكهرباء عن وسائل المعرفة، ولا من بدد الموارد في الحروب والصراعات العبثية.
ما يحدث هو عملية تواطؤ غير معلن بين الثقافة السائدة والنظام السياسي: فالثقافة الشعبية تفضل لوم الأفراد لأنها ترى فيهم الكائنات القريبة، المحسوسة، التي يمكن انتقادها دون تكلفة أو ثمن. أما النظام السياسي، فيعزز هذه النظرة لأنه يستفيد منها: فطالما أن الشعب يلوم نفسه، أو بعضه بعضًا، فإن أحدًا لن يتجه باللوم إلى الأعلى. هكذا يُدار الغضب نحو الأسفل، ويُعاد تدويره في حلقة من جلد الذات.
خذ مثلًا حالة التعليم. حين يجلس المدرس ليشكو من ضعف تلاميذه، نادرًا ما يتحدث عن المناهج البالية، أو قلة التدريب، أو المرتب الذي لا يكفي لتأمين مواصلاته. يصرّ المجتمع على أن الطالب هو "الكسول"، و"غير المهتم"، بينما الحقيقة أن نظامًا بأكمله قد خذله: من لحظة دخوله الصف بلا مقعد، إلى تلقيه دروسًا من معلمين مرهقين أو غير مؤهلين، إلى غياب الأنشطة، وضعف المحتوى، وانعدام الرؤية. النتيجة هنا – وهي ضعف الطالب – ليست فشلًا فرديًا، بل مرآة لفشل مؤسسي أوسع.
وفي الشأن الاقتصادي، نرى مثالًا آخر. حين يُتهم الشباب اليمني بالكسل، أو بالعزوف عن العمل، يُتجاهل أن أكثر من نصف السكان تحت خط الفقر، وأن البطالة ليست اختيارًا بل قدرًا. يُقال للشباب "ابحثوا عن فرص"، في حين أن السوق منهار، والفرص مرهونة بالولاء السياسي أو الانتماء القبلي أو الوساطة. يصبح العمل نفسه أداة إذلال، تُمنح كمنّة لا كحق. ومع ذلك، يُطلب من الشاب أن يتحلى بالمبادرة، والابتكار، والاعتماد على الذات.. لكن من يعطيه الأدوات؟ من يحميه من الرصاص في طريق المصنع أو السوق؟ من يؤمن له الاستقرار القانوني والنفسي حتى يفكر لا أن يهرب أو يسكت أو يتحول إلى "عالة" على النظام الذي أصلاً عالَ عليه؟
أما المرأة اليمنية، فتُقدَّم باستمرار كرمز "للصراع الثقافي" بين الحداثة والتقليد، وكأنها مشروع سياسي في ذاتها. يُدان مظهرها، وتُحاصر اختياراتها، لكنها لا تُسأل عن السبب الذي جعلها تخرج للعمل أصلًا. لا أحد يريد الاعتراف بأن انهيار دخل الأسرة، وغياب الرجل أحيانًا بسبب الحرب أو الهجرة أو السجن، هما ما دفعاها إلى ميادين العمل. وحين لا تجد إلا أعمالًا شاقة أو بيئات لا تراعي خصوصيتها، تُلام لا الظروف. يُنظر إلى هندامها أو صوتها، لا إلى الأجرة الزهيدة التي تتقاضاها، أو المهانة التي تتلقاها في غياب قانون يحميها. فيُقال "ما هكذا كانت نساؤنا"، دون أن يُقال: "ما هكذا كانت دولنا".
في الإعلام، تُمارس هذه المأساة في كل لحظة. تُنتج برامج "توعوية" تسخر من جهل المواطنين، أو تقدمهم ككائنات لا تفهم، أو تتصرف بغرابة. لكن نادرًا ما يناقش هذا الإعلام نفسه دوره في تغييب الوعي. من الذي جعل الفضاء الإعلامي مشغولًا بالفلكلور والشكليات، لا بالمعلومة والتحليل؟ من الذي احتكر المعرفة، وأغلق منافذ التثقيف الشعبي، وسخّر الإعلام للدعاية بدلًا من التنوير؟ المواطن اليمني، الذي يجهل بنية النظام السياسي، ليس من ألغى مادة التربية الوطنية، ولا من عطّل الصحف المستقلة، ولا من أغلق المكتبات، ولا من زاد من تكلفة الإنترنت. لكنه يُلام كأنه مسؤول عن جهله، بينما يظل الجهل أداةً بيد من يريد له أن يظل كذلك.
إن هذه العقلية التي تكتفي بجلد النتائج دون مساءلة الأسباب هي نفسها التي تُعيق الإصلاح الحقيقي. لأنها تزرع وهمًا أخلاقيًا مفاده أن الفساد نابع من "سوء نية الأفراد"، لا من فساد البنية. بهذا الشكل، لا تتغير النظم، بل يُطلب من الضحايا أن يتغيروا ليتناسبوا مع الظلم. وهكذا، تتحول النصائح المجتمعية إلى أدوات قمع إضافية: يُقال للطالب "اجتهد"، وللشباب "بادر"، وللمرأة "اصبري"، وللفقير "اقنع"، بينما يغيب تمامًا السؤال المحوري: وماذا عن الذين جعلوا الاجتهاد بلا مقابل، والمبادرة بلا أفق، والصبر بلا كرامة؟
إن المجتمعات لا تنهض من خلال إصلاح الأفراد فقط، بل من خلال إصلاح البنية التي تصنع هؤلاء الأفراد. حين نُدرك أن النتائج ليست إلا ثمرة أسباب أعمق، نستطيع حينها أن نوجه البوصلة نحو الفاعل الحقيقي، لا نحو ضحاياه. فالجهل ليس فضيلة، لكنه ليس نقصا حين يكون نتيجة لحرمان ممنهج. والتقصير ليس مدعاة للفخر، لكنه لا يُعالج بالمحاضرات، بل بخلق بيئة تُمكن الإنسان من الفعل والاختيار.
في الختام، فإننا نحتاج إلى ثقافة ترى الواقع كما هو، لا كما يُراد له أن يبدو. ثقافة تسأل عن الجذور لا الأوراق، عن الجدران لا الطلاء. وحدها هذه الثقافة من يمكن أن تفتح الطريق نحو التغييرللأفضل، لأن أول خطوة للخلاص من الفشل.. هي أن نكف عن معاقبة نتائجه، ونبدأ بمساءلة أسبابه.