لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
"لا ندرك من العالم إلا ما نحن مهيؤون لندركه منه."
هذه العبارة ليست مجرد تأمل وجودي، بل اختزال دقيق لحقيقة علمية وفلسفية مريرة: إن وعينا بالعالم ليس انعكاسًا موضوعيًا لما هو موجود، بل نتاجًا لتشكيل بيولوجي ونفسي وثقافي دقيق، وموجّه في كثير من الأحيان.
تشير القصة التي وردت في رواية "ثورة النمل" لبرنار فيربير إلى تجربة فيزيولوجية حقيقية أجريت في الستينيات على القطط، وتم تكرارها لاحقًا على كائنات أخرى: قُيّدت تلك القطط منذ ولادتها في بيئة لا تحتوي إلا على خطوط عمودية، وعندما نُقلت لاحقًا إلى بيئة مختلفة تحتوي على خطوط أفقية دالة على الطعام أو المخرج، لم تتمكن من التفاعل معها، وكأن تلك الخطوط غير مرئية بالنسبة لها. لماذا؟ لأنها لم تُبرمج على رؤيتها.
البرمجة الإدراكية: كيف نصبح سجناء لما "نراه" فقط؟
يتكون الإدراك من تفاعل معقد بين الجهاز العصبي، والتجربة، والعالم الخارجي. لكن هذه "النافذة" على الواقع لا تفتح على كل شيء، بل على ما تسمح به البنية العصبية أولًا، ثم البيئة التربوية والمعرفية.
مثل القطط، نحن نولد بقدرة على استقبال العالم، لكن طريقة استقبالنا تُشكل مبكرًا. الطفل الذي ينشأ في بيئة ترى السلطة مصدرًا للحقيقة، سيجد صعوبة في التفكير النقدي. والمجتمع الذي يُربى على أن النجاح هو ما تعرّفه الشهادات والدرجات، قد يعجز عن رؤية العبقرية في شكلها غير النمطي.
التجربة العلمية وراء القصة: من القطط إلى الإنسان
في إحدى التجارب الشهيرة التي أجراها العالمان هوبل وويزل (حائزا جائزة نوبل في الطب عام 1981)، وُضع عدد من القطط الصغيرة في غرف لا تحتوي إلا على خطوط عمودية أو أفقية. وبعد أسابيع، وُجد أن الخلايا العصبية في أدمغة هذه القطط قد تطورت بحيث تستجيب فقط لنوع الخطوط التي تعرضت لها. القطط التي لم تتعرض إلا لخطوط عمودية، لم تستجب للخطوط الأفقية، حتى حين كانت هذه ضرورية للنجاة.
الأمر لم يتوقف عند القطط، فدراسات الإدراك البشري كشفت أن الأطفال الذين لا يتعرضون لمنبهات بصرية أو لغوية في سن معينة يعجزون عن تطوير إدراك سليم لها لاحقًا، حتى لو تم تحفيزهم لاحقًا. الإدراك يُغلق بمرور الوقت، مثل نافذة تذبل.
القيود الخفية: كيف تحدد الثقافة رؤيتنا؟
ليست البيولوجيا وحدها من تشكل وعينا. الثقافة، اللغة، والتعليم، والمعتقدات الدينية والسياسية، كلها تشكل سياجًا إدراكيًا حول عقولنا. اللغة، مثلًا، لا تنقل فقط الأفكار، بل تحدد نوعها. العالم الأنثروبولوجي بنيامين وورف أشار إلى أن قبائل معينة لا تملك كلمات للتمييز بين الماضي والحاضر، فكان تصورهم للزمن مختلفًا جذريًا عن غيرهم.
وهنا نصل إلى استنتاج مرعب: نحن لا نرى الواقع، بل نرى تأويلات الواقع كما تسمح لنا "زخرفة الغرفة" التي وُلدنا فيها.
التحرر من سجن الإدراك: هل يمكننا رؤية الأفق؟
قد يبدو الأمر محبطًا، لكن في الإدراك البشري شيء فريد: القدرة على إعادة البرمجة. صحيح أن المراحل الأولى حرجة، لكن الدماغ البشري يمتلك خاصية "المرونة العصبية" (Neuroplasticity) التي تسمح له بإعادة تشكيل شبكاته ولو ببطء. وهذا يعني أن الخروج من سجن الإدراك ممكن، لكنه يتطلب جهدًا واعيًا:
التعرض لثقافات مختلفة.
قراءة فلسفات متعددة، حتى تلك التي نرفضها.
السفر العقلي لا يقل أهمية عن السفر الجغرافي.
التشكيك المتعمد في المسلمات.
الحقيقة تبدأ من الشك، ثم بالاستعداد لرؤية العالم كما لم نره من قبل.
خاتمة
كل واحد منا يعيش داخل "غرفة" زخرفتها ثقافته، بيئته، مدرسته، شاشته، وحتى هاتفه. فهل نتوقف عند حدود ما نشأنا عليه، أم نغامر بخلع العدسات، والنظر بأعين جديدة؟
إن القطط لم تكن غبية، فقط لم تُهيأ للرؤية.
ونحن أيضًا، قد لا نكون مخطئين.. فقط، غير مهيئين.