لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
إيلون ماسك لا يحب أنصاف الحلول، ولا يرضى بالمألوف. في عالمٍ تسير فيه النماذج اللغوية خلف ما تُقدمه الإنترنت من فتات المعرفة، قرر أن يقلب الطاولة على الجميع، لا بتحديث نموذج أو إصدار نسخة محسّنة، بل بإعادة تعريف أصل البيانات نفسها.
قالها بوضوح: سنستخدم Grok لإعادة كتابة المعرفة البشرية. لا رقابة، ولا تلميح. هدفه أن يُنظّف مصادر المعلومات قبل أن تتعلّم منها الآلة من جديد؛ أن يُغربل الكون الرقمي، كما لو كان مزارعًا يستخرج الحنطة من بين الحصى.
لكن، مهلاً؛ من يحدد ما يُعدّ حقيقة وما يُعدّ "زبالة"؟ من يقيس الصدق، ويقترح ما يجب أن يظل، وما يجب أن يُمحى؟ هنا تتحول التقنية إلى سلطة معرفية، لا تقلّ خطورة عن أي استبداد فكري قديم. الفرق الوحيد أن هذه المرة، الاستبداد يرتدي قناع الكفاءة، ويصعد على عرش التعلّم الآلي.
إن ما يُعلنه ماسك ليس مجرّد تحديث تقني؛ إنه مشروع لإعادة ترميز العقل البشري عبر وسيط رقمي. مشروع يطمح إلى تجاوز الفوضى المعلوماتية، لا بجمع كل شيء، بل باختيار ما يجب أن يُعلّم للنموذج، وما يجب نسيانه. وكأن العالم بحاجة إلى إنجيل جديد، تكتبه الخوارزميات.
تخيّل نموذج ذكاء اصطناعي لا يتعلّم من الإنترنت، بل من موسوعة نقية، مُصاغة مسبقًا من قبل جهة واحدة. هذا ليس تعليماً، هذا تلقين ناعم. النموذج لا يعود أداة للاستكشاف، بل يصبح آلة ترديد لنسخة مختارة من الواقع.
كل نموذج لغوي هو مرآة لما أُطعِم به، وماسك يريد أن يُنظّف هذه المرايا من الغبار. ولكن، أي غبار هذا؟ هل هو الغبار الذي يُعكّر الرؤية، أم الغبار الذي يُخفي انعكاسات لا تُعجبه؟
نحن لا نقف أمام مشروع برمجي، بل أمام محاولة لإعادة تعريف الحقيقة الرقمية. محاولة قد تفتح أبواباً لفهم أعمق وأدق، لكن بنفس القدر، قد تفتح ثغرات لفقدان التنوّع، والاختلاف، والشكّ المشروع.
الذكاء الاصطناعي لا يفهم بالمعنى البشري؛ هو يجمع، ويعيد الصياغة، ويحاكي أنماطنا دون أن يُدركها فعلاً. ومع ذلك، إذا تمّ تغذيته بموسوعة مثالية، ربما يقترب من الفهم. لكن، يظل السؤال: من يكتب هذه الموسوعة؟ ومن يمنحها ختم الكمال؟
ربما ما يخشاه البعض ليس إعادة كتابة المعرفة، بل انقراض المعرفة التي لم تُكتب بعد.