لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
من أعظم خصائص المنهج العلمي أنه لا يُعير انتباهًا للمنصب، ولا ينحني أمام الوجاهة، ولا يُخدَع بأسماء العظماء. فسواء جاء الدليل من عالم نوبل أو من طالب مبتدئ، فإن البرهان التجريبي المتكرر هو وحده المهم. في ساحة العلم، لا مكان للألقاب، بل للنتائج القابلة للتكرار والدحض.
العلم لا يُدار بمبدأ الطاعة، بل بمبدأ الشك المنهجي. إنه بطبيعته نظام قابل للتكذيب (Falsifiable)، أي أنه يقبل في صلبه احتمال الخطأ، ويفتح المجال دومًا لدحض النظريات السابقة إن ظهرت أدلة تجريبية جديدة. ليست هناك "حقيقة مقدسة" في العلم، فكل نظرية - مهما بدت راسخة - هي عرضة للنقد وإعادة التقييم.
ولذلك، يمكن لشخص واحد، إن أتى بدليل تجريبي صارم، أن يقلب ما ظنّ الناس أنه علمٌ مستقر. العلم لا يخشى التغيير، بل يسعى إليه. ولهذا السبب، كان آينشتاين مثلاً قادرًا على تحدي نظريات نيوتن، لا لأن اسمه "آينشتاين"، بل لأن معادلاته أثبتت صحتها أمام التجربة.
التميّز الأخلاقي في المنهج العلمي يكمن في حياده:
لا يسأل: "من قال؟"
بل يسأل: "ما الدليل؟ وهل يمكن تكراره؟"
وهذا ما يجعل العلم محررًا للبشر من سطوة السلطة المعرفية المطلقة. فبدلًا من أن تفرض النخب تفسيرًا واحدًا للعالم، يُفسح العلم المجال للجميع بأن يشاركوا، شرط أن يحترموا قواعد اللعبة: الملاحظة الدقيقة، التجربة المتكررة، والنقد المفتوح.
في مجتمعات تستبد فيها الألقاب، يصبح الصوت الأعلى هو صوت من يحمل "المنصب" أو "اللقب الأكاديمي"، حتى وإن خالف العقل والمنطق. أما في المجتمع العلمي الحقيقي، فإن ورقة علمية من باحث في قرية نائية يمكن أن تزلزل أركان نظرية كُتبت في أعرق الجامعات.
ولهذا السبب، فإن الاستبداد المعرفي لا يزدهر في مناخ علمي حر. العلم في جوهره ديمقراطي: يعطي الفرصة للجميع، لكنه لا يجامل أحدًا.
قوة العلم ليست في نتائجه فقط، بل في عدالته المنهجية. فحين يتساوى الجميع أمام التجربة، تصبح الحقيقة متاحة لكل باحث صادق. ومع أن هذا يجعل العلم مجالًا صعبًا، إذ لا يتهاون مع الخطأ، إلا أنه يجعله أيضًا مجالًا محررًا للإنسان من الخرافة والتسلّط.
ففي عالم العلم، يكفي أن تأتي بحقيقة قابلة للتكرار.. حتى لو كنت وحدك.